فصل: تفسير الآيات رقم (20- 21)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 21‏]‏

‏{‏فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ‏(‏20‏)‏ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

كانت وسوسة الشّيطان بقرب نهي آدم عن الأكل من الشّجرة، فعبّر عن القرب بحرف التّعقيب إشارة إلى أنّه قرب قريب، لأنّ تعقيب كلّ شيء بحسبه‏.‏

والوسوسة الكلام الخفي الذي لا يسمعه إلاّ المُداني للمتكلّم، قال رؤبة يصف صائداً‏:‏

وَسْوَسَ يَدعُو جاهداً ربّ الفلق *** سِرّاً وقد أوّنَ تَأوِينُ العُقق

وسمي إلقاء الشيطان وسوسة‏:‏ لأنّه ألقَى إليهما تسويلاً خفياً من كلاممٍ كلمهما أو انفعاللٍ في أنفسهما‏.‏ كهيئة الغاش الماكر إذْ يُخفِي كلاماً عَن الحاضرين كيلا يفسدوا عليه غشّه بفضح مضاره فألقى لهما كلاماً في صورة التّخافت ليوهمهما أنّه ناصح لهما وأنّه يخافت الكلام، وقد وقع في الآية الأخرى التّعبير عن تسويل الشّيطان بالقول‏:‏ ‏{‏فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلّك على شجرة الخُلْد وملك لا يبلى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 120‏]‏ ثمّ درج اصطلاح القرآن وكلام الرّسول عليه الصّلاة والسّلام على تسمية إلقاء الشّيطان في نفوس النّاس خواطرَ فاسدة، وسوسة تقريباً لمعنى ذلك الإلقاء للأفهام كما في قوله‏:‏ ‏{‏من شر الوسواس الخنّاس‏}‏ ‏[‏الناس‏:‏ 4‏]‏ وهذا التّفصيل لإلقاء الشّيطان كيده انفردت به هذه الآية عن آية سورة البقرة لأنّ هذه خطاب شامل للمشركين وهم أخلياء عن العلم بذلك فناسب تفظيع أعمال الشّيطان بمسمع منهم‏.‏

واللاّم في‏:‏ ‏{‏ليبدي‏}‏ لام العاقبة إذا كان الشّيطان لا يعلم أنّ العصيان يفضي بهما إلى حدوث خاطر الشرّ في النّفوس وظهور السوآت، فشبّه حصول الأثر عقب الفعل بحصول المعلول بعد العلّة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 8‏]‏ وإنّما التقطوه ليكون لهم قرّة عين، وحسن ذلك أن بدوّ سوآتهما ممّا يرضي الشّيطان‏.‏ ويجوز أن تكون لام العلّة الباعثة إذا كان الشيطان يعلم ذلك بالإلهام أو بالنّظر، فالشّيطان وسوس لآدم وزوجه لغرض إيقاعهما في المعصية ابتداء، لأنّ ذلك طبعه الذي جبل على عمله، ثم لغرض الإضرار بهما، إذ كان يعلم أنّهما يعصيان الله بالأكل من الشّجرة، ولمّا كان عدُوّاً لهما كان يسعى إلى مَا يؤذيهما، ويحسدهما على رضَى الله عنهما، ويعلم أنّ العصيان يُفضي بهما إلى سوء الحال على الإجمال، فكان مظهر ذلك السوء إبداءَ السوْآت، فجُعل مفصِّلُ العلّة المجملة عند الفاعل هو العلّةَ، وإن لم تخطر بباله، ويحتمل أن يكون الشّيطان قد علم ذلك بعلم حصل له من قبل‏.‏ والحاصلُ أنّه أراد الإضْرار، لأنّه قد استقرّ في طبعه عداوة البشر، كما سيصرّح به فيما بعدُ، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الشّيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 6‏]‏‏.‏

والإبداء ضدّ الإخفاء، فالإبداء كشف الشّيء وإظهاره، ويطلق مجازاً على معرفة الشّيء بعد جهله يقال‏:‏ بدَا لي أنْ أفعل كذا‏.‏

وأسند إبداءُ السوْآت إلى الشّيطان لأنّه المتسبّب فيه على طريقة المجاز العقلي والسوآت جمعُ سوْأة وهي اسم لما يسوء ويتعيّر به من النّقايص، ومِن سَب العرب قولهم‏:‏ سوأةً لك، ومن تلهّفهم‏:‏ يا سوْأتَا‏.‏

ويكنّى بالسوأة عن العورة‏.‏ ومعنى ووُري عنهما حجب عنهما وأخفي، مشتقاً من المواراة وهي التّغطيّة والإخفاء وتطلق المواراة مجازاً على صرف المرء عن علم شيء بالكتمان أو التّلبيس‏.‏

والسّوآت هنا يجوز أن تكون جمع السوأة للخصلة الذّميمة كما في قول أبي زبيد‏:‏

لَم يَهْب حُرمة النّديم وحُقَّت *** يا لَقَوْمي للسوأةِ السوآءِ

فتكون صيغة الجمع على حقيقتها، والسّوآت حينئذٍ مستعمل في صريحه، ويجوز أن تكون جمع السوأة، المكنى بها عن العورة، وقد روي تفسيرها بذلك عن ابن عبّاس كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 26‏]‏ وعلى هذا فصيغة الجمع مستعملة في الاثنين للتّخفيف كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقد صَغَت قلوبكما‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 4‏]‏‏.‏ وسيجيء تحقيق معنى هذا الإبداء عند قوله تعالى بعد هذا‏:‏ ‏{‏فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 22‏]‏‏.‏

وعطفُ جملة‏:‏ ‏{‏وقال ما نهاكما ربكما‏}‏ على جملة ‏{‏فوسوس‏}‏ يدلّ على أنّ الشّيطان وسوس لهما وسوسة غيرَ قوله‏:‏ ‏{‏ما نهاكما‏}‏ إلخ ثمّ ثنى وسوسته بأن قال مَا نهاكما، ولو كانت جملة‏:‏ ‏{‏ما نهاكما‏}‏ إلى آخرها بياناً لجملة ‏{‏فوسوس‏}‏ لكانت جملة‏:‏ ‏{‏وقال ما نهاكما‏}‏ بدون عاطف، لأنّ البيان لا يعطف على المبيَّن‏.‏ وفي هذا العطف إشعار بأنّ آدم وزوجه تردّدا في الأخذ بوسوسة الشّيطان فأخذ الشيطان يراودهما‏.‏ ألا ترى أنّه لم يعطف قوله، في سورة طه ‏(‏120‏)‏‏:‏ ‏{‏فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى‏}‏ فإنّ ذلك حكاية لابتداء وسوسته فابتدأ الوسوسة بالإجمال فلم يعيّن لآدم الشّجرة المنهي عن الأكل منها استنزالاً لطاعته، واستزلالاً لقدمه، ثمّ أخذ في تأويل نهي الله إياهما عن الأكل منها فقال ما حكي عنه في سورة الأعراف‏:‏ ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين‏}‏ الآية فأشار إلى الشّجرة بعد أن صارت معروفة لهما زيادة في إغرائِهما بالمعصية بالأكل من الشّجرة، فقد وزّعت الوسوسة وتذييلها على السّورتين على عادة القرآن في الاختصار في سوْق القصص اكتفاء بالمقصود من مغزى القصّة لئلا يصير القصصُ مقصداً أصلياً للتنزيل‏.‏

والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏عن هذه لشجرة‏}‏ إلى شجرة معيّنة قد تبيّن لآدم بعد أن وسوس إليه الشّيطان أنّها الشّجرة التي نهاه الله عنها، فأراد إبليس إقدامه على المعصية وإزالة خوفه بإساءة ظنّه في مراد الله تعالى من النّهي‏.‏

والاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إلا أن تكونا ملكين‏}‏ استثناء من علل، أي ما نهاكما لعلّة وغرض إلاّ لغرض أن تكونا مَلكين، فتعين تقدير لام التّعليل قبل ‏(‏أنْ‏)‏ وحذف حروف الجرّ الدّاخلة على ‏(‏أنْ‏)‏ مطرد في كلام العرب عند أمن اللّبس‏.‏

وكونُهما مَلكين أو خالدَيْن علّة للنّهي‏:‏ أي كونكما ملَكين هو باعث النّهي، إلاّ أنّه باعث باعتبار نفي حصوله لا باعتبار حصوله، أي هو علّة في الجملة، ولذلك تأوّله سيبويه والزمخشري بتقدير‏:‏ كراهة أن تكونا‏.‏

وهو تقدير معنى لا تقدير إعراب، كما تقدّم في سورة الأنعام، وقيل حذفت ‏(‏لا‏)‏ بعد ‏(‏أن‏)‏ وحذفها موجود، وبذلك تأوّل الكوفيون وقد تقدم القول فيه‏.‏ وقد أوهم إبليس آدم وزوجه أنّهما متمكّنان أن يصيرا ملكين من الملائكة، إذا أكلا من الشّجرة، وهذا من تدجيله وتلبيسه إذْ ألفى آدم وزوجه غير متبصّريْن في حقائق الأشياء، ولا عالِمَيْن المقدار الممكن في انقلاب الأعيان وتطوّرِ الموجودات، وكانا يشاهدان تفضيل الملائكة عند الله تعالى وزلفاهم وسعة مقدرتهم، فأطمعهما إبليس أن يصيرا من الملائكة إذا أكلا من الشّجرة، وقيل المراد التشبيهُ البليغ أي إلاّ أن تكونا في القرب والزلفى كالمَلكين، وقد مثل لهما بما يعرفان من كمال الملائكة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أو تكونا من الخالدين‏}‏ عطف على‏:‏ ‏{‏أن تكونا ملكين‏}‏ وأصل ‏(‏أو‏)‏ الدّلالة على التّرْديد بين أحد الشّيئين أو الأشياء، سواء كان مع تجويز حصول المتعاطفات كلّها فتكون للإباحة بعد الطّلب، وللتّجويز بعد الخبر أو للشكّ؛ أم كان مع منع البعض عند تجويز البعض فتكون للتّخيير بعد الطّلب وللشكّ أو التّرْديد بعد الخبر، والتّرديدُ لا ينافي الجزم بأن أحد الأمرين واقع لا محالة كما هنا، فمعنى الكلام أن الآكل من هذه الشّجرة يكون مَلَكاً وخالداً، كما قال عنه في سورة طه ‏(‏120‏)‏‏:‏ ‏{‏هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى‏}‏ فجعل نهي الله لهما عن الأكل لاَ يَعدو إرادة أحد الأمرين، ويستفاد من المقام أنّه قد يريد حرمانهما من الأمرين جميعاً بدلالة الفحوى، ولم يكن آدم قد علم حينئذ أنّ الخلود متعذر، وأنّ الموت والحشر والبعث مكتوب على النّاس، فإنّ ذلك يتلقّى من الوحي كما في قوله تعالى لهما في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 36‏]‏‏.‏

‏{‏وقاسمهما‏}‏ أي حلف لهما بما يوهم صدقه، والمقاسمة مفاعلة من أقسم إذا حلف، حذفت منه الهمزة عند صوغ المفاعلة، كما حذفت في المكارمة، والمفاعلةُ هنا للمبالغة في الفعل، وليست لحصول الفعل من الجانبين، ونظيرها‏:‏ عافاه الله، وجعله في «الكشاف»‏:‏ كأنّهما قالا له تُقسم بالله إنّك لمن النّاصحين فَأقْسم فجُعل طلبُهما القسمَ بمنزلة القسم، أي فتكون المفاعلة مجازاً، قال أو أقسم لهما بالنّصيحة وأقسما له بقبولها، فتكون المفاعلة على بابها، وتأكيد إخباره عن نفسه بالنّصح لهما بثلاث مؤكدَات دليل على مبلغ شكّ آدم وزوجه في نصحه لهما، وما رأى عليهما من مخائل التّردّد في صدقه، وإنّما شكّا في نصحه لأنّهما وَجدا ما يأمرهما مخالفاً لما أمرهما الله الذي يعلمان إرادتَه بهما الخير علماً حاصلاً بالفطرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏فدلاهما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة بَدَتْ لَهُمَا سوءاتهما وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة‏}‏‏.‏

تفريع على جملة‏:‏ ‏{‏فوسوس لهما الشّيطان‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 20‏]‏ وما عطف عليها‏.‏

ومعنى ‏{‏فدلاّهما‏}‏ أقدمهما ففَعلا فِعلاً يطمعان به في نفع فخابَا فيه، وأصل دلَّى، تمثيل حال من يطلب شيئاً من مظنّته فلا يجده بحال من يُدَلِّي دَلوه أو رجليه في البئر ليسْتقي من مائها فلا يجد فيها ماء فيقال‏:‏ دَلَّى فلانٌ، يقال دلّى كما يقال أدلى‏.‏

والباء للملابسة أي دلاهما ملابِساً للغُرور أي لاستيلاء الغرور عليه إذ الغرور هو اعتقاد الشيء نافعاً بحسب ظاهر حاله ولا نفع فيه عند تجربته، وعلى هذا القياس يقال دَلاّه بغرور إذا أوقعه في الطّمع فيما لا نفع فيه، كما في هذه الآية وقول أبي جُندب الهُذلي ‏(‏هو ابن مُرّة ولم أقف على تعريفه فإن كان إسلامياً كان قد أخذ قوله كمن يدلّى بالغرور من القرآن، وإلاّ كان مثلاً مستعملاً من قبل‏)‏‏:‏

أحُصّ فلا أجيرُ ومَنْ أجِرْه *** فليس كمَنْ يدلّى بالغرور

وعلى هذا الاستعمال ففعل دَلّى يستعمل قاصراً، ويستعمل متعدّياً إذا جعل غيره مدَلِّيَاً، هذا ما يؤخذ من كلام أهل اللّغة في هذا اللّفظ، وفيه تفسيرات أخرى لا جدوى في ذكرها‏.‏

ودلّ قوله‏:‏ ‏{‏فدلهما بغرور‏}‏ على أنّهما فعلا ما وسوس لهما الشّيطان، فأكلا من الشّجرة، فقوله‏:‏ ‏{‏فلما ذاقا الشجرة‏}‏ ترتيب على دَلاَهما بغرور فحذفت الجملة واستُغني عنها بإيراد الاسم الظّاهر في جملة شرط لَمَّا، والتّقدير‏:‏ فأكلا منها، كما ورد مصرّحاً به في سورة البقرة، فلمّا ذاقاها بدت لهما سوآتهما‏.‏

والذّوق إدراك طعم المأكول أو المشروب باللّسان، وهو يحصل عند ابتداء الأكل أو الشّرب، ودلت هذه الآية على أن بُدُوّ سوآتهما حصل عند أوّل إدراك طعم الشّجرة، دلالة على سرعة ترتّب الأمر المحذور عند أوّل المخالفة، فزادت هذه الآية على آية البقرة‏.‏

وهذه أوّلُ وسوسة صدرت عن الشّيطان‏.‏ وأوّل تضليل منه للإنسان‏.‏

وقد أفادت ‏(‏لما‏)‏ توقيت بدوّ سوآتهما بوقت ذوقهما الشّجرة، لأنّ ‏(‏لما‏)‏ حرف يدل على وجود شيء عند وجود غيره، فهي لمجرّد توقيت مضمون جوابها بزمان وجود شرطها، وهذا مَعنى قولهم‏:‏ حرف وُجودٍ لِوُجُودٍ ‏(‏فاللاّم في قولهم لوجود بمعنى ‏(‏عند‏)‏ ولذلك قال بعضهم هي ظرف بمعنى حين، يريد باعتبار أصلها، وإذ قد التزموا فيها تقديم ما يدل على الوقت لا على الموقت، شابهت أدوات الشّرط فقالوا حرف وجود لوجود كما قالوا في ‏(‏لو‏)‏ حرف امتناععٍ لامْتناععٍ، وفي ‏(‏لَولا‏)‏ حرف امتناع لوجود، ولكن اللاّم في عبارة النّحاة في تفسير معنى لو ولولا، هي لام التّعليل، بخلافها في عبارتهم في ‏(‏لما‏)‏ لأنّ ‏(‏لما‏)‏ لا دلالة لها على سَبَب، ألا ترى قوله تعالى‏:‏

‏{‏فلما نَجّاكم إلى البر أعرضتم‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 67‏]‏ إذ ليس الإنجاء بسبب للإعراض، ولكن لَمَّا كان بين السّبب والمسبّب تقارن كثر في شرط ‏(‏لما‏)‏ وجوابها معنى السَّببية دون اطراد، فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما‏}‏ لا يدلّ على أكثر من حصول ظهور السوْآت عند ذوق الشّجرة، أي أنّ الله جعل الأمرين مقترنين في الوقت، ولكن هذا التّقارن هو لكون الأمرين مسبّبين عن سبب واحد، وهو خاطر السوء الذي نفثه الشّيطان فيهما، فسبب الإقدام على المخالفة للتّعاليم الصّالحة، والشّعورَ بالنقيصة‏:‏ فقد كان آدم وزوجه في طور سذاجة العلم، وسلامة الفطرة، شبيهين بالملائكة لا يُقدمان على مفسدة ولا مَضرة، ولا يُعرضان عن نصح ناصح عَلِمَا صدقَه، إلى خبر مخبر يشكّان في صدقه، ويتوقّعان غروره، ولا يشعران بالسوء في الأفعال، ولا في ذَرائِعها ومقارناتها‏.‏ لأنّ الله خلقهما في عالم ملَكي‏.‏ ثمّ تطوّرت عقليَّتهما إلى طور التّصرّف في تغيير الوجدان‏.‏ فتكّون فيهما فعل ما نُهيا عنه‏.‏ ونشأ من ذلك التّطوّر الشّعورُ بالسّوء للغير، وبالسوء للنّفس، والشّعور بالأشياء التي تؤدي إلى السوء‏.‏ وتقارن السوء وتلازمه‏.‏

ثمّ إن كان «السَّوآت» بمعنى ما يسوء من النّقائص، أو كان بمعنى العَورات كما تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليبدي لهما ما وُوري عنهما من سوآتهما‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 20‏]‏ فبُدوّ ذلك لهما مقارن ذوق الشّجرة الذي هو أثر الإقدام على المعصية ونبذِ النّصيحة إلى الاقتداء بالغَرور والاغترار بقَسَمه، فإنَّهما لما نشأت فيهما فكرة السوء في العمل، وإرادة الإقدام عليه، قارنت تلك الكيفيةَ الباعثةَ على الفعل نَشْأةُ الانفعال بالأشياء السيّئة، وهي الأشياء التي تظهر بها الأفعال السيّئة، أو تكون ذريعة إليها، كما تنشأ معرفة آلة القطع عند العزم على القتل، ومن فكرة السّرقة معرفةُ المكان الذي يختفَى فيه، وكذلك تنشأ معرفة الأشياء التي تلازم السوء وتقارنه، وإن لم تكن سيّئة في ذاتها، كما تنشأ معرفة اللّيل من فكرة السّرقة أو الفرارِ، فتنشأ في نفوسسِ النّاسسِ كراهيته ونسبته إلى إصدار الشّرور، فالسوآت إن كان معناه مطلق ما يسوء منهما ونقائصِهما فهي من قبيل القسمين، وإن كان معناه العورة فهي من قبيل القسم الثّاني، أعني الشّيء المقارن لما يسوء، لأنّ العورة تقارن فعلا سيّئاً من النّقائص المحسوسة، والله أوجدها سببَ مصالح، فلم يَشعر آدمُ وزوجه بشيء ممّا خلقت لأجله، وإنّما شعرا بمقارنة شيء مكروه لذلك وكلّ ذلك نشأ بإلْهام من الله تعالى، وهذا التّطوّر، الذي أشارت إليه الآية، قد جعله الله تطوّراً فطرياً في ذرّية آدم، فالطّفل في أوّل عمره يكون بريئاً من خواطر السّوء فلا يستاء من تلقاء نفسه إلاّ إذا لحق به مؤلم خارجي، ثمّ إذا ترعرع أخذت خواطر السوء تنتابه في باطن نفسه فيفرضها ويولِّدها، وينفعل بها أو يفعل بما تشير به عليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة‏}‏ حكاية لابتداء عمل الإنسان لستر نقائصه، وتحيُّلِه على تجنّب ما يكرهه، وعلى تحسين حاله بحسب ما يُخيِّل إليه خيالُه، وهذا أوّل مظهر من مظاهر الحَضارة أنشأه الله في عقلي أصلَي البشر، فإنّهما لما شعرا بسَوآتهما بكلا المعنيين، عَرفا بعض جزئياتها، وهي العورة وحدث في نفوسهما الشّعور بقبح بروزها، فشرعا يخفيانها عن أنظارهما استبشاعاً وكراهيةً، وإذ قد شعرا بذلك بالإلهام الفطري، حيث لا ملقّن يلقنّهما ذلك، ولا تعليم يعلمهما، تَقرّر في نفوس النّاس أنّ كشف العورة قبيح في الفطرة، وأنّ سترها متعيّن، وهذا من حكم القوّة الواهمة الذي قارَن البشر في نشأته، فدلّ على أنّه وَهْم فطري متأصّل، فلذلك جاء دين الفطرة بتقرير ستر العورة، مشايعة لما استقرّ في نفوس البشر، وقد جعل الله للقوّة الواهمة سلطاناً على نفوس البشر في عصور طويلة، لأنّ في اتّباعها عونا على تهذيب طباعه، ونزْععِ الجلافة الحيوانية من النّوع، لأنّ الواهمة لا توجد في الحيوان، ثمّ أخذت الشّرائع، ووصايا الحكماء، وآداب المربِّينَ، تزيل من عقول البشر متابعة الأوهام تدريجاً مع الزّمان، ولا يُبقون منها إلاّ ما لا بد منه لاستبقاء الفضيلة في العادة بين البشر، حتّى جاء الإسلام وهو الشّريعة الخاتمة فكان نوط الأحكام في دين الإسلام بالأمور الوهْميّة ملغى في غالب الأحكام، كما فصّلتُه في كتاب «مقاصد الشّريعة» وكتاب «أصول نظام الاجتماع في الإسلام»‏.‏

والخصف حقيقته تقوية الطّبقة من النّعل بطبقة أخرى لتشتدّ، ويستعمل مجازاً مرسلاً في مطلق التّقوية للخِرقة والثّوب، ومنه ثوب خَصيف أي مخصوف أي غليظ النّسج لا يَشف عمّا تحته، فمعنى يخصفان يضعان على عوراتهما الورَق بعضه على بعض كفعل الخاصف، وضعا مُلزقاً متمكّناً، وهذا هو الظّاهر هنا إذ لم يقل يخصفان وَرَق الجنّة‏.‏

و ‏(‏من‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من ورق الجنة‏}‏ يجوز كونها اسماً بمعنى بعضَ في موضع مفعول ‏{‏يخصفان‏}‏ أي يخصفان بعض ورق الجنة، كما في قوله‏:‏ ‏{‏من الذين هادوا يحرفون‏}‏، ويجوز كونها بيانيّة لمفعول محذوف يقتضيه‏:‏ «‏{‏يخصفان‏}‏ والتقدير‏:‏ يخصفان خِصْفاً من ورق الجنة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

عطف على جواب ‏(‏لَمَّا‏)‏، فهو ممّا حصل عند ذَوق الشّجرة، وقد رتب الإخبار عن الأمور الحاصلة عند ذوق الشّجرة على حسب ترتيب حصولها في الوجود‏.‏ فإنّهما بدت لهما سوآتهما فطفقا يخصفان‏.‏ وأعقب ذلك نداءُ الله إيّاهما‏.‏

وهذا أصل في ترتيب الجمل في صناعة الإنشاء، إلاّ إذا اقتضى المقام العدول عن ذلك، ونظير هذا الترتيب ما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولما جاءت رسلنا لوطاً سيء بهم وضاق بهم ذرعاً وقال هذا يوم عصيب‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 77‏]‏ وقد بيّنته في كتاب «أصول الإنشاء والخطابة» ولم أعلم أنّي سُبقت إلى الاهتداء إليه‏.‏

وقد تأخّر نداء الربّ إياهما إلى أن بدت لهما سوآتهما، وتحيَّلا لستر عوراتهما ليكون للتّوبيخ وقْعٌ مكين من نفوسهما، حين يقع بعد أن تظهر لهما مفاسد عصيانهما، فيعلما أنّ الخير في طاعة الله، وأنّ في عصيانه ضرّاً‏.‏

والنّداء حقيقته ارتفاع الصّوت وهو مشتق من النَّدى بفتح النّون والقصر وهو بُعد الصّوت، قال مدثار بن شيبان النمري‏:‏

فَقُلتُ ادعِي وأدْعُوا إنّ أندى *** لِصَوْتتٍ أن يُنادِيَ داعيان

وهو مجاز مشهور في الكلام الذي يراد به طلب إقبال أحد إليك، وله حروف معروفة في العربيّة‏:‏ تدلّ على طلب الإقبال، وقد شاع إطلاق النّداء على هذا حتّى صار من الحقيقة، وتفرّع عنه طلب الإصغاء وإقبال الذّهن من القريب منك، وهو إقبال مجازي‏.‏

‏{‏وناداهما ربهما‏}‏ مستعملٌ في المعنى المشهور‏:‏ وهو طلب الإقبال، على أنّ الإقبال مجازي لا محالة فيكون كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وزكرياء إذا نادى ربه‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 89‏]‏ وهو كثير في الكلام‏.‏

ويجوز أن يكون مستعملاً في الكلام بصوت مرتفع كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كمَثَل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 171‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 43‏]‏ وقول بشّار‏:‏

نَادَيْت إنّ الحبّ أشْعَرني *** قَتْلاً وما أحدثتُ من ذَنْب

ورفع الصّوت يكون لأغراض، ومحمله هنا على أنّه صوت غضب وتوبيخ‏.‏

وظاهر إسناد النّداء إلى الله أنّ الله ناداهما بكلام بدون واسطة مَلك مرسل، مثللِ الكلام الذي كلّم الله به موسى، وهذا واقع قبل الهبوط إلى الأرض، فلا ينافي ما ورد من أن موسى هو أوّل نبيء كلّمه الله تعالى بلا واسطة، ويجوز أن يكون نداءُ آدم بواسطة أحد الملائكة‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ألم أنهاكما‏}‏ في موضع البيان لجملة ‏(‏ناداهما‏)‏، ولهذا فصلت الجملة عن التي قبلها‏.‏

والاستفهام في ‏{‏ألم أنهاكما‏}‏ للتّقرير والتّوبيخ، وأُولِيَ حرفَ النّفي زيادة في التّقرير، لأنّ نهي الله إياهما واقع فانتفاؤه منتفا، فإذا أدخلت أداة التّقرير وأقرّ المقرَّر بضد النّفي كان إقرارُه أقوى في المؤاخذة بموجَبه، لأنّه قد هُييء له سبيل الإنكار، لو كان يستطيع إنكاراً، كما تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم‏}‏ الآية في سورة الأنعام ‏(‏130‏)‏، ولذلك اعترفا بأنّهما ظلما أنفسهما‏.‏

وعطف جملة‏:‏ وأقل لكما‏}‏ على جملة‏:‏ ‏{‏أنهكما‏}‏ للمبالغة في التّوبيخ، لأنّ النّهي كان مشفوعاً بالتّحذير من الشّيطان الذي هو المغري لهما بالأكل من الشّجرة، فهما قد أضاعا وصيتين‏.‏ والمقصود من حكاية هذا القول هنا تذكير الأمّة بعداوة الشيطان لأصل نوع البشر، فيعلموا أنّها عداوة بين النّوعين، فيحذروا من كلّ ما هو منسوب إلى الشّيطان ومعدود من وسوسته، فإنّه لما جُبل على الخبث والخري كان يدعو إلى ذلك بطبعه وكان لا يهنأ له بال ما دام عدوّهُ ومحسودُه في حالة حسنة‏.‏

والمُبين أصله المظهر، أي للعداوة بحيث لا تخفى على من يتتبّع آثار وسوسته وتغريره، وما عامل به آدمَ من حين خلقه إلى حين غروره به ففي ذلك كلّه إبَانة عن عداوته، ووجه تلك العداوة أن طبعه ينافي ما في الإنسان من الكمال الفطري المؤيَّد بالتّوفيق والإرشاد الإلهي، فلا يحب أن يكون الإنسانُ إلاّ في حالة الضّلال والفساد‏.‏ ويجوز أن يكون المبين مستعملاً مجازاً في القويّ الشّديد لأنّ شأن الوصف الشّديد أن يظهر للعيان‏.‏

وقد قالا‏:‏ ‏{‏ربنا ظلمنا أنفسنا‏}‏ اعترافاً بالعصيان، وبأنّهما علما أن ضر المعصية عاد عليهما، فكانا ظالمين لأنفسهما إذ جرّا على أنفسهما الدّخولَ في طور ظهور السوآت، ومشقّة اتّخاذ ما يستر عوراتهما، وبأنّهما جَرّا على أنفسهما غضب الله تعالى، فهما في توقع حقوق العذاب، وقد جزما بأنّهما يكونان من الخاسرين إن لم يغفر الله لهما، إمّا بطريق الإلهام أو نوع من الوحي، وإمّا بالاستدلال على العَواقب بالمبادئ، فإنّهما رأيا من العصيان بوادِئ الضر والشّر، فعلما أنّه من غضب الله ومن مخالفة وصايته، وقد أكدا جملة جواب الشّرط بلام القسم ونون التّوكيد إظهاراً لتحقيق الخسران استرحاما واستغفاراً من الله تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ‏(‏24‏)‏‏}‏

طوَى القرآن هنا ذكر التّوبة على آدم‏:‏ لأنّ المقصود من القصّة في هذه السّورة التّذكير بعداوة الشّيطان وتحذير النّاس من اتّباع وسوسته، وإظهار ما يُعقبه اتّباعه من الخسران والفساد، ومقام هذه الموعظة يقتضي الإعراض عن ذكر التّوبة للاقتصار على أسباب الخسارة، وقد ذكرت التّوبة في آية البقرة المقصودِ منها بيان فضل آدم وكرامته عند ربّه، ولكلّ مقامً مَقال‏.‏ والخطابُ لآدم وزوجه وإبليسَ‏.‏ والأمر تكويني، وبه صار آدم وزوجه وإبليسُ من سكّان الأرض‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏بعضكم لبعض عدو‏}‏ في موضع الحال من ضمير‏:‏ ‏{‏اهبطوا‏}‏ المرفوععِ بالأمر التّكويني فهذه الحال أيضاً تفيد معنى تكوينياً وهو مقارنة العداوة بينهم لوجودهما في الأرض، وهذا التّكوين تأكّدت به العداوة الجبلية السّابقة فرسخت وزادت، والمراد بالبعض البعض المخالف في الجنس، فأحد البعضين هو آدم وزوجه، والبعض الآخر هو إبليس، وإذ قد كانت هذه العداوة تكوينيّة بين أصلي الجنسين، كانت موروثة في نسليهما، والمقصود تذكير بني آدم بعداوة الشّيطان لهم ولأصلهم ليتّهموا كلّ وسوسة تأتيهم من قِبله، وقد نشأت هذه العداوة عن حَسد إبليس، ثمّ سَرت وتشجرت فصارت عداوة تامة في سائر نواحي الوجود، فهي منبثّة في التّفكير والجسد، ومقتضية تمام التّنافر بين النّوعين‏.‏

وإذ قد كانت نفوس الشّياطين داعية إلى الشرّ بالجبلة تعين أن عقل الإنسان منصرف بجبلته إلى الخير، ولكنّه معرّض لوسوسة الشّياطين فيقع في شذوذ عن أصل فطرته، وفي هذا ما يكون مفتاحاً لمعنى كون النّاس يولدون على الفطرة، وكون الإسلام دين الفطرة، وكون الأصل في النّاس الخير‏.‏ أمَّا كون الأصل في النّاس العدالة أو الجرح فذلك منظور فيه إلى خشية الوقوع في الشّذوذ، من حيث لا يدري الحاكم ولا الراوي، لأنّ أحوال الوقوع في ذلك الشّذوذ مبهمة فوجب التّبصّر في جميع الأحوال‏.‏

وعطفت جملة‏:‏ ‏{‏ولكم في الأرض مستقر‏}‏ على جملة‏:‏ ‏{‏بعضكم لبعض عدو‏}‏‏.‏

والمستقرّ مصدر ميمي والاستقرار هو المكث وقد تقدّم القول فيه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لكل نبإ مستقر‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 67‏]‏ وقوله ‏{‏فمستقر ومستودع‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏98‏)‏‏.‏

والمراد به الوجود أي وجود نوع الإنسان وبخصائصه وليس المراد به الدفن كما فسر به بعض المفسرين لأنّ قوله ومتاع يُصد عن ذلك ولأنّ الشّياطين والجنّ لا يُدفنون في الأرض‏.‏

والمتاع والتّمتّع‏:‏ نيل الملذّات والمرغوبات غير الدّائمة، ويطلق المتاع على ما يُتمتّع به وينتفع به من الأشياء، وتقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم‏}‏ في سورة النّساء ‏(‏102‏)‏‏.‏

والحِين المدّة من الزّمن، طويلة أو قصيرة، وقد نكر هنا ولم يحدّد لاختلاف مقداره باختلاف الأجناس والأفراد، والمراد به زمن الحياة التي تخول صاحبها إدراك اللّذّات، وفيه يحصل بقاء الذّات غير متفرّقة ولا متلاشية ولا معدومة، وهذا الزّمن المقارن لحالة الحياة والإدراك هو المسمّى بالأجل، أي المدّة التي يبلغ إليها الحيّ بحياته في علم الله تعالى وتكوينِه، فإذا انتهى الأجل وانعدمت الحياة انقطع المستقَر والمتاع، وهذا إعلام من الله بما قدّره للنّوعين، وليس فيه امتنان ولا تنكيل بهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

أعيد فعل القول في هذه الجملة مستأنفاً غير مقترن بعاطف، ولا مستغنى عن فعل القول بواو عطف، مع كون القائل واحداً، والغرضضِ متّحداً، خروجاً عن مقتضى الظّاهر لأنّ مقتضى الظاهر في مثله هو العطف، وقد أهمل توجيهَ ترك العطف جمهورُ الحذّاق من المفسّرين‏:‏ الزمخشري وغيره، ولعلّه رأى ذلك أسلوباً من أساليب الحكاية، وأوّل من رأيتُه حاول توجيه ترك العطف هو الشّيخ محمّد بن عرفة التّونسي في «املاءات التّفسير» المروية عنه، فإنّه قال في قوله تعالى الآتي في هذه السّورة ‏(‏140‏)‏‏:‏ ‏{‏قال أغير الله أبغيكم إلهاً بعد قوله‏:‏ قال إنكم قوم تجهلون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 138‏]‏ إذ جعل وجه إعادة لفظ قال هو ما بين المقالين من البَوْن، فالأوّل راجع إلى مجرد الإخبار ببطلان عبادة الأصنام في ذاته، والثاني إلى الاستدلال على بطلانه، وقد ذكر معناه الخفاجي عند الكلام على الآية الآتِيَة بعد هذه، ولم ينسبه إلى ابن عرفة فلعلّه من توارد الخواطر؛ وقال أبو السّعود‏:‏ إعادة القول إمّا لإظهار الاعتناء بمضمون ما بعده، وهو قوله‏:‏ ‏{‏فيها تحيون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 25‏]‏ وإما للإيذان بكلام محذوف بين القولين كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال فما خطبكم‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 57‏]‏ إثر قوله ‏{‏قال ومن يقنط من رحمة ربه‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 56‏]‏ فإن الخليل خاطب الملائكة أوّلاً بغير عنوان كونهم مرسلين، ثمّ خاطبهم بعنوان كونهم مرسلين عند تبين أنّ مجيئهم ليس لمجرّد البشارة، فلذلك قال‏:‏ ‏{‏فما خطبكم‏}‏، وكما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أرايتك هذا الذي كرمت علي‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 62‏]‏ بعد قوله ‏{‏قال أأسجد لِمَنْ خلقت طيناً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 61‏]‏ فإنّه قال قوله الثّاني بعد الإنظار المترتّب على استنظاره الذي لم يصرّح به اكتفاء بما ذكر في مواضع أخرى، هذا حاصل كلامه في مواضع، والتّوجيه الثّاني مردود إذ لا يلزم في حكاية الأقوال الإحاطة ولا الاتّصال‏.‏

والذي أراه أنّ هذا ليس أسلوباً في حكاية القول يتخيّر فيه البليغ، وأنّه مساو للعطف بثمّ، وللجمع بين حرف العطف وإعادة فعل القول، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 39‏]‏ بعد قوله ‏{‏قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 38‏]‏، فإذا لم يكن كذلك كان توجيه إعادة فعل القول، وكونه مستأنفاً‏:‏ أنّه استئناف ابتدائي للاهتمام بالخبَر، إيذاناً بتغيّر الخطاب بأن يكون بين الخطابين تخالُفٌ مَّا، فالمخاطب بالأوّل آدم وزوجه والشّيطان، والمخاطب بالثّاني آدم وزوجه وأبناؤهما، فإن كان هذا الخطاب قبل حدوث الذرّية لهما كما هو ظاهر السّياق فهو خطاب لهما بإشعارهما أنّهما أبوا خلق كثير‏:‏ كلَّهم هذا حالهم، وهو من تغليب الموجود على من لم يوجد، وإن كان قد وقع بعدَ وجود الذرّية لهما فوجه الفصل أظهر وأجدر، والقرينةُ على أنّ إبليس غير داخل في الخطاب هو قوله‏:‏ ‏{‏ومنها تخرجون‏}‏ لأنّ الإخراج من الأرض يقتضي سبق الدّخول في باطنها، وذلك هو الدّفن بعد الموت، والشّياطين لا يُدفنون‏.‏

وقد أمهل الله إبليس بالحياة إلى يوم البعث فهو يحشر حينئذٍ أو يموت ويبعث، ولا يَعلم ذلك إلاّ الله تعالى‏.‏

وقد جُعل تغيير الأسلوب وسيلة للتّخلّص إلى توجيه الخطاب إلى بني آدم عقب هذا‏.‏

وقد دلّ جمع الضّمير على كلام مطوي بطريقة الإيجاز‏:‏ وهو أنّ آدم وزوجه استقرا في الأرض، وتَظهرُ لهما ذريّة، وأنّ الله أعلمهم بطريق من طرق الإعلام الإلهي بأنّ الأرض قرارهم، ومنها مبعثهم، يشمَل هذا الحكم الموجودين منهم يوم الخطاب والذين سيوجدون من بعد‏.‏

وقد يجعل سبب تغيير الأسلوب تخالف القولين بأنّ القول السابق قول مخاطبة، والقول الذي بعده قول تقدير وقضاء أي قدّر الله تحيون فيها وتموتون فيها وتخرجون منها‏.‏

وتقديم المجرورات الثّلاثة على متعلّقاتها للاهتمام بالأرض التي جعل فيها قرارهم ومتاعهم، إذ كانت هي مقرّ جميع أحوالهم‏.‏

وقد جعل هذا التّقديم وسيلة إلى مراعاة النّظير، إذ جعلت الأرض جامعة لهاته الأحوال، فالأرض واحدة وقد تداولت فيها أحوال سكّانها المتخالفة تخالفاً بعيداً‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ تُخْرجون بضمّ الفوقية وفتح الرّاء على البناء للمفعول، وقرأه حمزة، والكسائي، وابن ذكوان عن ابن عامر، ويعقوبُ، وخلف‏:‏ بالبناء للفاعل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

إذا جرينا على ظاهر التّفاسير كان قوله‏:‏ ‏{‏يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً‏}‏ الآية استئنافاً ابتدائياً، عاد به الخطاب إلى سائر النّاس الذين خوطبوا في أوّل السّورة بقوله‏:‏ ‏{‏اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 3‏]‏ الآيات، وهم أمّة الدّعوة، لأنّ الغرض من السّورة إبطال ما كان عليه مشركو العرب من الشّرك وتوابعه من أحوال دينهم الجاهلي، وكان قوله‏:‏ ‏{‏ولقد خلقناكم ثم صورناكم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 11‏]‏ استطراداً بذكر منّة الله عليهم وهم يكفرون به كما تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد خلقناكم‏}‏ فخاطبتْ هذه الآية جميع بني آدم بشيء من الأمور المقصودة من السّورة فهذه الآية كالمقدّمة للغرض الذي يأتي في قوله‏:‏ ‏{‏يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 31‏]‏ ووقوعها في أثناء آيات التّحذير من كيد الشّيطان جعلها بمنزلة الاستطراد بين تلك الآيات وإن كانت هي من الغرض الأصلي‏.‏

ويجوز أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً‏}‏ وما أشبهه ممّا افتتح بقوله‏:‏ ‏{‏يا بني آدم‏}‏ أربعَ مرّات، من جملة المقول المحكي بقوله‏:‏ ‏{‏قال فيها تحيون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 25‏]‏ فيكون ممّا خاطب الله به بني آدم في ابتداء عهدهم بعمران الأرض على لسان أبيهم آدمَ، أو بطريق من طرق الإعلام الإلهي، ولو بالإلهام، لما تَنشأ به في نفوسهم هذه الحقائق، فابتدأ فأعلمهم بمنَّته عليهم أن أنزل لهم لباساً يواري سَوْآتهم، ويتجمّلون به بمناسبة ما قصّ الله عليهم من تعري أبويهم حين بدت لهما سَوءاتُهما، ثمّ بتحذيرهم من كيد الشّيطان وفتنته بقوله‏:‏ ‏{‏يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 27‏]‏ ثمّ بأن أمرهم بأخذ اللّباس وهو زينة الإنسان عند مواقع العبادة لله تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 31‏]‏، ثمّ بأن أخذ عليهم العهد بأن يُصدّقوا الرّسل وينتفعوا بهديهم بقوله‏:‏ ‏{‏يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 35‏]‏ الآية، واستطرد بين ذلك كلّه بمواعظ تنفع الذين قُصدوا من هذا القَصص، وهم المشركون المكذّبون محمّداً صلى الله عليه وسلم فهم المقصود من هذا الكلام كيفما تفنّنت أساليبه وتناسقَ نظمُه، وأيًّا ما كان فالمقصود الأوّل من هذه الخطابات أو من حكايتها هم مشركُو العرب ومكذّبو محمّد صلى الله عليه وسلم ولذلك تخللتْ هذه الخطاباتتِ مُستطرَدَاتٌ وتعريضاتٌ مناسبة لما وضعه المشركون من التّكاذيب في نقض أمر الفطرة‏.‏

والجُمل الثّلاث من قوله‏:‏ ‏{‏يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً‏}‏ وقوله ‏{‏يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 27‏]‏ وقوله ‏{‏يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 31‏]‏ متّصلة تمام الاتّصال بقصّة فتنة الشّيطان لآدم وزوجه، أو متّصلة بالقول المحكي بجملة‏:‏ ‏{‏قال فيها تحيون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 25‏]‏ على طريقة تعداد المقول تعداداً يشبه التّكرير‏.‏

وهذا الخطاب يشمل المؤمنين والمشركين، ولكن الحظّ الأوفر منه للمشركين‏:‏ لأنّ حظّ المؤمنين منه هو الشّكر على يَقينهم بأنّهم موافقون في شؤونهم لمرضاة ربّهم، وأمّا حظّ المشركين فهو الإنذار بأنّهم كافرون بنعمة ربّهم، معرّضون لسخطه وعقابه‏.‏

وابتُدئ الخطاب بالنّداء ليقع إقبالهم على ما بعده بشراشر قلوبهم، وكان لاختيار استحضارهم عند الخطاب بعنوان بني آدم مرّتين وقْع عجيب، بعد الفراغ من ذكر قصّة خلق آدم وما لقيه من وسوسة الشّيطان‏:‏ وذلك أنّ شأن الذرّية أن تثأر لآبائها، وتعادي عدوّهم، وتحترس من الوقوع في شَرَكه‏.‏

ولمّا كان إلهام الله آدمَ أن يَستر نفسه بوَرق الجنّة مِنَّةٌ عليه، وقد تقلّدها بنوه، خوطب النّاس بشمول هذه المنّة لهم بعنوان يدلّ على أنّها منّةٌ موروثة، وهي أوقع وأدعى للشّكر، ولذلك سمّى تيسير اللّباس لهم وإلهامهم إياه إنزالاً، لقصد تشريف هذا المظهر، وهو أوّل مظاهر الحَضارة، بأنّه منزّل على النّاس من عند الله، أو لأنّ الذي كان مِنْهُ على آدم نزل به من الجنّة إلى الأرض التي هو فيها، فكان له في معنى الإنزال مزيد اختصاص، على أنّ مجرّد الإلهام إلى استعماله بتسخير إلهي، مع ما فيه من عظيم الجدوى على النّاس والنّفع لهم، يحسِّن استعارة فعل الإنزال إليه، تشريفاً لشأنه، وشاركه في هذا المعنى ما يكون من الملهمات عظيم النّفع، كما في قوله‏:‏ ‏{‏وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للنّاس‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 25‏]‏ أي أنزلنا الإلهام إلى استعماله والدّفاععِ به، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 6‏]‏ أي‏:‏ خلَقها لكم في الأرض بتدبيره، وعلَّمكم استخدامها والانتفاعَ بما فيها، ولا يطرد في جميع ما أُلهم إليه البشر ممّا هو دون هذه في الجدوى، وقد كان ذلك اللّباس الذي نزل به آدم هو أصل اللّباس الذي يستعمله البشر‏.‏

وهذا تنبيه إلى أنّ اللّباس من أصل الفطرة الإنسانيّة، والفطرة أوّل أصول الإسْلام، وأنّه ممّا كرم الله به النّوع منذ ظهوره في الأرض، وفي هذا تعريض بالمشركين إذ جعلوا من قرباتهم نزع لباسهم بأن يحجّوا عُراة كما سيأتي عند قوله‏:‏ ‏{‏قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 32‏]‏ فخالفوا الفطرة، وقد كان الأمم يحْتفلون في أعياد أديانهم بأحسن اللّباس، كما حكى الله عن موسى عليه السّلام وأهل مصر‏:‏ ‏{‏قال موعدكم يوم الزينة‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 59‏]‏‏.‏

واللّباس اسم لما يلبَسه الإنسان أي يستُر به جزءاً من جسده، فالقميص لباس، والإزار لباس، والعمامة لباس، ويقال لبس التّاج ولبس الخاتم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وتستخرجون حلية تلبسونها‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 12‏]‏ ومصدر لبس اللّبس بضمّ اللاّم‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏يواري سوآتكم‏}‏ صفة ‏(‏للباساً‏)‏ وهو صنف اللّباس اللاّزم، وهذه الصّفة صفة مَدح اللّباس أي من شأنه ذلك وإن كان كثير من اللّباس ليس لمواراة السوآت مثل العمامة والبرد والقباء وفي الآيه إشارة إلى وجوب ستر العورة المغلظة، وهي السوأة، وأمّا ستر ما عداها من الرّجل والمرأة فلا تدلّ الآية عليه، وقد ثبت بعضه بالسنّة، وبعضه بالقياس والخوض في تفاصيلها وعللها من مسائل الفقه‏.‏

والرّيش لباس الزّينة الزائد على ما يستر العورة، وهو مستعار من ريش الطّير لأنّه زينته، ويقال للباس الزّينة رِياش‏.‏

وعطف ‏(‏ريشاً‏)‏ على‏:‏ ‏{‏لباساً يزارى سوآتكم‏}‏ عطفَ صنف على صنف، والمعنى يَسَّرنا لكم لباساً يستركم ولباساً تتزيّنون به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولباس التقوى‏}‏ قرأه نافع، وابن عامر، والكسائي، وأبُو جعفر‏:‏ بالنّصب، عطفاً على ‏{‏لباساً‏}‏ فيكون من اللّباس المُنْزَل أي الملهَم، فيتعيّن أنّه لباس حقيقة أي شيء يلبس‏.‏ والتّقوى، على هذه القراءة، مصدر بمعنى الوقاية، فالمراد‏:‏ لَبوس الحرب، من الدّروع والجواشن والمغافر‏.‏ فيكون كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 81‏]‏‏.‏ والإشارة باسم الإشارة المفرد بتأويل المذكور، وهو اللّباس بأصنافه الثّلاثة، أي خير أعطاه الله بني آدم‏.‏ فالجملة مستأنفة أو حال من ‏{‏لباساً‏}‏ وما عطف عليه‏.‏

وقرأه ابن كثير، وعاصم، وحمزة، وأبو عمرو، ويعقوب، وخَلف‏:‏ برفع ‏{‏لباس التقوى‏}‏ على أنّ الجملة معطوفة على جملة ‏{‏قد أنزلنا عليكم لباساً‏}‏، فيجوز أن يكون المراد بلباس التّقوى مثل ما يرد به في قراءة النّصب، ويجوز أن يكون المراد بالتّقوى تقوى الله وخشيته، وأطلق عليها اللّباس إمّا بتخييل التّقوى بلباس يُلبس، وإمّا بتشبيه ملازمة تقوى الله بملازمة اللاّبس لباسه، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هن لباس لكم وأنتم لباس لهن‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏ مع ما يحسِّن هذا الإطلاق من المشاكلة‏.‏

وهذا المعنى الرّفعُ أليقُ به‏.‏ ويكون استطراداً للتّحريض على تقوى الله، فإنّها خير للنّاس من منافع الزّينة، واسم الإشارة على هذه القراءة لتعظيم المشار إليه‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون‏}‏ استئناف ثان على قراءة‏:‏ ‏{‏ولباس التقوى‏}‏ بالنّصب بأن استأنف‏.‏ بعد الامتنان بأصناف اللبّاس، استئنافين يؤذنان بعظيم النّعمة‏:‏ الأوّل بأنّ اللّباس خير للنّاس، والثّاني بأنّ اللّباس آية من آيات الله تدلّ على علمه ولطفه، وتدلّ على وجوده، وفيها آية أخرى وهي الدّلالة على علم الله تعالى بأن ستكون أمّة يَغلب عليها الضّلال فيكونون في حجّهم عُراةً، فلذلك أكّد الوصاية به‏.‏ والمشار إليه، بالإشارة التي في الجملة الثّانية، عين المشار إليه بالإشارة التي في الجملة الأولى وللاهتمام بكلتا الجملتين جعلت الثّانية مستقلّة غير معطوفة‏.‏

وعلى قراءة رفع‏:‏ ‏{‏ولباس للتقوى‏}‏ تكون جملة‏:‏ ذلك من آيات الله استئناف واحداً والإشارة التي في الجملة الثّانية عائدة إلى المذكور قبلُ من أصناف اللّباس حتّى المجازي على تفسير لباس التّقوى بالمجازي‏.‏

وضمير الغيبة في‏:‏ ‏{‏لعلهم يذكرون‏}‏ التفات أي جعل الله ذلك آية لعلّكم تتذكّرون عظيم قدرة الله تعالى وانفراده بالخلق والتّقدير واللّطف، وفي هذا الإلتفات تعريض بمن لم يتذكر من بني آدم فكأنّه غائب عن حضرة الخطاب، على أنّ ضمائر الغيبة، في مثل هذا المقام في القرآن، كثيراً ما يقصد بها مشركو العرب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

أعيد خطاب بني آدم، فهذا النّداء تكملة للآي قبله، بُني على التّحذير من متابعة الشّيطان إلى إظهار كيده للنّاس من ابتداء خلقهم، إذ كاد لأصلهم‏.‏

والنّداء بعنوان بني آدم‏:‏ للوجه الذي ذكرتُه في الآية قبلها، مع زيادة التّنويه بمنّة اللّباس توكيداً للتّعريض بحماقة الذين يحجّون عُراة‏.‏ وقد نهوا عن أن يفتنهم الشّيطان، وفتون الشّيطان حصول آثار وسوسته، أي لا تمكّنوا الشّيطان من أن يفتنكم، والمعنى النّهي عن طاعته، وهذا من مبالغة النّهي، ومنه قول العرب لاَ أعْرِفَنَّك تفعل كذا‏:‏ أي لا تَفْعَلَن فأعْرِفَ فعلك، لا أرَيَنَّكَ هنا‏:‏ أي لا تحضرن هنا فأراك، فالمعنى لا تطيعوا الشّيطان في فتْنِهِ فيفتنَكم ومثل هذا كناية عن النّهي عن فعل والنّهي عن التّعرّض لأسبابه‏.‏

وشُبّه الفتون الصّادر من الشّيطان للنّاس بِفَتنِهِ آدمَ وزوجَه إذْ أقدمهما على الأكل من الشجّرة المنهي عنه، فأخرجهما من نعيم كانا فيه، تذكيراً للبشر بأعظم فتنة فتن الشّيطان بها نوعهم، وشملتْ كلّ أحد من النّوع، إذ حُرم من النّعيم الذي كان يتحقق له لو بقي أبواه في الجنّة وتناسلا فيها، وفي ذلك أيضاً تذكير بأنّ عداوة البشر للشّيطان موروثة، فيكون أبعث لهم على الحذر من كيده‏.‏

و ‏(‏ما‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏كما أخرج‏}‏ مصدريّة، والجار والمجرور في موضع الصّفة لمصدر محذوف هو مفعول مطلق ليفتننّكم، والتّقدير‏:‏ فُتوناً كإخراجه أبويكم من الجنّة، فإنّ إخراجه إياهما من الجنّة فتون عظيم يشبه به فتون الشّيطان حين يراد تقريب معناه للبشر وتخويفهم منه‏.‏

والأبوان تثنية الأب، والمراد بهما الأبُ والأمّ على التّغليب، وهو تغليب شائع في الكلام وتقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولأبويه‏}‏ في سورة النّساء ‏(‏11‏)‏‏.‏ وأطلق الأب هنا عن الجدّ لأنّه أب أعلى، كما في قول النبي‏:‏ أنا ابن عبدِ المطّلب‏.‏

وجملة‏:‏ ينزع عنهما لباسهما‏}‏ في موضع الحال المقارنة من الضّمير المستتر في‏:‏ ‏{‏أخرج‏}‏ أو من‏:‏ ‏{‏أبويكم‏}‏ والمقصود من هذه الحال تفظيع هيئة الإخراج بكونها حاصلة في حال انكشاف سَوْآتهما لأنّ انكشاف السوءة من أعظم الفظائع في متعارف النّاس‏.‏

والتّعبير عمّا مضى بالفعل المضارع لاستحضار الصّورة العجيبة من تمكّنه من أن يتركهما عريانين‏.‏

واللّباسُ تقدّم قريباً، ويجوز هنا أن يكون حقيقة وهو لباسٌ جلَّلهما الله به في تلك الجنّة يحجب سوآتهما، كما روي أنّه حِجاب من نور، وروي أنّه كقشر الأظفار وهي روايات غير صحيحة‏.‏ والأظهر أنّ نزع اللّباس تمثيل لحال التّسبّب في ظهور السوءة‏.‏

وكرّر التّنويه باللّباس تمكيناً للتّمهيد لقوله تعالى بعده‏:‏ ‏{‏خذوا زينتكم عند كل مسجد‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 31‏]‏‏.‏

وإسناد الإخراج والنّزع والإراءة إلى الشّيطان مجاز عقلي، مبني على التّسامح في الإسناد بتنزيل السّبب منزلة الفاعل، سواء اعتبر النّزع حقيقة أم تمثيلاً، فإنّ أطراف الإسناد المجازي العقلي تكون حقائق، وتكون مجازات، وتكون مختلفة، كما تقرّر في علم المعاني‏.‏

واللاّم في قوله‏:‏ ‏{‏ليريهما سوآتهما‏}‏ لام التّعليل الادّعائي، تبعاً للمجاز العقلي، لأنّه لمّا أسند الإخراج والنّزع والإراءة إليه على وجه المجاز العقلي، فجعل كأنّه فاعل الإخراججِ ونزععِ لباسهِما وإراءتِهما سوآتِهما، ناسب أن يجعل له غرض من تلك الأفعال وهو أن يُريهما سَوآتهما ليَتِم ادّعاء كونه فاعلَ تلك الأفعال المضرّة، وكونِه قاصداً من ذلك الشّناعة والفظاعة، كشأن الفاعلين أن تكون لهم علل غائية من أفعالهم إتماماً للكيد، وإنّما الشّيطان في الواقع سبب لرؤيتهما سوآتهما، فانتظم الإسناد الادّعائي مع التّعليل الادّعائي، فكانت لام العلّة تقوية للإسناد المجازي، وترشيحاً له، ولأجل هذه النّكتة لم نجعل اللاّم هنا للعاقبة كما جعلناها في قوله‏:‏ ‏{‏فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووُري عنهما من سوآتهما‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 20‏]‏ إذ لم تقارن اللاّم هنالك إسناداً مجازياً‏.‏

وفي الآية إشارة إلى أنّ الشّيطان يهتم بكشف سوأة ابن آدم لأنّه يسرّه أن يراه في حالة سوء وفظاعة‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إنه يريكم هو وقبيله‏}‏ واقعة موقع التّعليل للنّهي عن الافتتان بفتنة الشّيطان، والتّحذير من كيده، لأنّ شأن الحَذِرِ أن يَرصد الشّيء المخوف بنظره ليحترس منه إذا رأى بَوادره، فأخبر الله النّاس بأنّ الشّياطين تَرى البشر، وأنّ البشر لا يرونها، إظهاراً للتّفاوت بين جانب كيدهم وجانب حذر النّاس منهم، فإنّ جانب كيدهم قويّ متمكّن وجانب حذر النّاس منهم ضعيف، لأنّهم يأتون المكيد من حيث لا يدري‏.‏

فليس المقصود من قوله‏:‏ ‏{‏إنه يركم هو وقبيله من حيث لا ترونهم‏}‏ تعليم حقيقة من حقائق الأجسام الخفيّة عن الحواس وهي المسمّاة بالمجرّدات في اصطلاح الحكماء ويسمّيها علماؤنا الأرواح السفليّة إذ ليس من أغراض القرآن التّصدّي لتعليم مثل هذا إلاّ ما له أثر في التّزكية النّفسية والموعظة‏.‏

والضّمير الذي اتّصلت به ‏(‏إنّ‏)‏ عائد إلى الشّيطان وعُطف‏:‏ ‏{‏وقبيله‏}‏ على الضّمير المستتر في قوله‏:‏ ‏{‏يريكم‏}‏ ولذلك فصل بالضّمير المنفصل‏.‏ وذُكر القبيل، وهو بمعنى القبيلة، للدّلالة على أنّ له أنصاراً ينصرونه على حين غفلة من النّاس، وفي هذا المعنى تقريب حال عداوةِ الشّياطين بما يعهده العرب من شدّة أخذِ العدوّ عدوّه على غرّة من المأخوذ، تقول العرب‏:‏ أتَاهم العَدوّ وهم غَارّون‏.‏

وتأكيد الخبر بحرف التّوكيد لتنزيل المخاطبين في إعراضهم عن الحذر من الشّيطان وفتنته منزلة من يتردّدون في أنّ الشيطان يراهم وفي أنّهم لا يرونه‏.‏

و ‏{‏من حيث لا ترونهم‏}‏ ابتداء مكان مبهم تنتفي فيه رؤية البشر، أي من كلّ مكان لا ترونهم فيه، فيفيد‏:‏ إنّه يراكم وقبيلهُ وأنتم لا ترونه قريباً كانوا أو بعيداً، فكانت الشّياطين محجوبين عن أبصار البشر، فكان ذلك هو المعتاد من الجنسين، فرؤية ذوات الشّياطين منتفية لا محالة، وقد يخول الله رؤية الشّياطين أو الجنّ متشكّلة في أشكال الجسمانيات، معجزةً للأنبياء كما ورد في الصّحيح‏:‏

‏"‏ إنّ عفريتاً من الجنّ تَفَلَّت عليّ اللّيلةَ في صلاتي فَهَمَمْت أن أوثقه في سارِية من المسجد ‏"‏ الحديث، أو كرامةً للصّالحين من الأمم كما في حديث الذي جاء يسرق من زكاة الفطر عند أبي هريرة، وقول النّبيء صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة‏:‏ ‏"‏ ذلك شيطان ‏"‏ كما في «الصّحيحين»، ولا يكون ذلك إلاّ على تشكل الشّيطاننِ أو الجنّ في صورة غير صورته الحقيقيّة، بتسخير الله لتتمكّن منه الرّؤية البشريّة، فالمرئيّ في الحقيقة الشّكل الذي ماهيةُ الشّيطان من ورائه، وذلك بمنزلة رؤية مكاننٍ يُعلم أنّ فيه شيطاناً، وطريق العلم بذلك هو الخبر الصّادق، فلولا الخبر لما عُلم ذلك‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إنا جعلنا الشيطان أولياء للذين لا يؤمنون‏}‏ مستأنفة استئنافاً ابتدائياً قصد منه الانتقال إلى أحوال المشركين في ائتمارهم بأمر الشّيطان، تحذيراً للمؤمنين من الانتظام في سلكهم، وتنفيراً من أحوالهم، والمناسبة هي التّحذير وليس لهذه الجملة تعلّق بجملةِ‏:‏ ‏{‏إنه يريكم هو وقبيله‏}‏‏.‏

وتأكيد الخبر بحرف التّأكيد للاهتمام بالخبر بالنّسبة لمن يسمعه من المؤمنين‏.‏ والجعل هنا جعل التّكوين، كما يعلم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بعضكم لبعض عدو‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 24‏]‏ بمعنى خلقنا الشّياطين‏.‏

و ‏{‏أولياءَ‏}‏ حال من ‏{‏الشياطين‏}‏ وهي حال مقدرة أي خلقناهم مُقدرة وَلايتُهم للّذين لا يؤمنون، وذلك أنّ الله جبل أنواع المخلوقات وأجناسَها على طبائِع لا تنتقل عنها، ولا تقدر على التّصرّف بتغييرها‏:‏ كالافتراس في الأسد، واللّسع في العقرب، وخلق للإنسان العقلَ والفكر فجعله قادراً على اكتساب ما يختار، ولما كان من جبلة الشّياطين حبّ ما هو فساد، وكان من قدرة الإنسان وكسبه أنّه قد يتطلّب الأمر العائد بالفساد، إذا كان له فيه عاجلُ شهوة أو كان يشبه الأشياء الصّالحة في بادئ النّظرة الحمقاء، كان الإنسان في هذه الحالة موافقاً لطبع الشّياطين، ومؤتمراً بما تسوله إليه، ثمّ يغلِب كسب الفساد والشرّ على الذين توغّلوا فيه وتدرّجوا إليه، حتّى صار المالكَ لإراداتهم، وتلك مَرتبَة المشركين، وتتفاوت مراتب هذه الولاية، فلا جرم نشأت بينهم وبين الشّياطين ولاية ووفاق لتقارب الدّواعي، فبذلك انقلبت العداوة التي في الجبلة التي أثبتها قوله‏:‏ ‏{‏إنّ الشيطان لكما عدو مبين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 22‏]‏ وقوله ‏{‏بعضكم لبعض عدو‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 24‏]‏ فصارت ولاية ومحبّة عند بلوغ ابن آدم آخرَ دركات الفساد، وهو الشّرك وما فيه، فصار هذا جعلا جديداً ناسخاً للجعل الذي في قوله‏:‏ ‏{‏بعضكم لبعض عدو‏}‏ كما تقدّمت الإشارة إليه هنالك، فما في هذه الآية مقيّد للإطلاق الذي في الآية الأخرى تنبيها على أن من حقّ المؤمن أن لا يوالي الشّيطان‏.‏

والمراد بالذين لا يؤمنون المشركون، لأنّهم المضادون للمؤمنين في مكّة، وستجيء زيادة بيان لهذه الآية عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم‏}‏ في هذه السورة ‏(‏35‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏وإذا فعلوا فاحشة‏}‏ معطوف على ‏{‏للذين لا يؤمنون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 27‏]‏ فهو من جملة الصّلة، وفيه إدماج لكشف باطلهم في تعلّلاتهم ومعاذيرهم الفاسدة، أي للذين لا يقبلون الإيمان ويفعلون الفواحش ويعتذرون عن فعلها بأنّهم اتّبعوا آباءهم وأنّ الله أمرهم بذلك، وهذا خاص بأحوال المشركين المكذّبين، بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏قل إن الله لا يأمر بالفحشاء‏}‏ والمقصود من جملتي الصّلة‏:‏ تفظيع حال دينهم بأنّه ارتكاب فواحش، وتفظيع حال استدلالهم لها بما لا ينتهض عند أهل العقول‏.‏ وجاء الشّرط بحرف ‏{‏إذا‏}‏ الذي من شأنه إفادة اليقين بوقوع الشّرط ليشير إلى أنّ هذا حاصل منهم لا محالة‏.‏

والفاحشة في الأصل صفة لموصوف محذوف أي‏:‏ فَعْلَة فاحشة ثمّ نزل الوصف منزلة الاسم لكثرة دورانه، فصارت الفاحشة اسماً للعمل الذّميم، وهي مشتقّة من الفُحْش بضمّ الفاء وهو الكثرة والقوّة في الشّيء المذموم والمكروه، وغلبت الفاحشة في الأفعال الشّديدة القبح وهي التي تنفر منها الفطرة السّليمة، أو ينشأ عنها ضرّ وفساد بحيث يأباها أهل العقول الرّاجحة، وينكرها أولو الأحلام، ويستحيي فاعلها من النّاس، ويتستر من فعلها مثل البغاء والزّنى والوأد والسّرقة، ثمّ تنهى عنها الشّرائع الحقّة، فالفعل يوصف بأنّه فاحشة قبل ورود الشّرع، كأفعال أهل الجاهليّة، مثل السّجود للتّماثيل والحجارة وطلب الشّفاعة منها وهي جماد، ومثل العراء في الحجّ، وترك تسمية الله على الذّبائح، وهي من خَلق الله وتسخيره، والبغاء، واستحلال أموال اليتامى والضّعفاء، وحرمان الأقارب من الميراث، واستشارة الأزلام في الإقدام على العمل أو تركه، وقتل غير القاتل لأنّه من قبيلة القاتل، وتحريمهم على أنفسهم كثيراً من الطيّبات التي أحلّها الله وتحليلهم الخبائث مثل الميتة والدّم‏.‏ وقد روي عن ابن عبّاس أنّ المراد بالفاحشة في الآية التّعري في الحجّ، وإنّما محمل كلامه على أنّ التّعرّي في الحجّ من أوّل ما أريد بالفاحشة لاقصرها عليه فكأن أيمّة الشّرك قد أعدوا لأتباعهم معاذير عن تلك الأعمال ولقنوها إياهم، وجِماعها أن ينسبوها إلى آبائهم السالِفين الذين هم قدوة لخلفهم، واعتقدوا أنّ آباءهم أعلم بما في طي تلك الأعمال من مصالح لو اطّلع عليها المنكرون لعرفوا ما أنكروا، ثمّ عطفوا على ذلك أنّ الله أمر بذلك يعنون أنّ آباءهم ما رسموها من تلقاء أنفسهم، ولكنّهم رسموها بأمر من الله تعالى، ففهم منه أنّهم اعتذروا لأنفسهم واعتذروا لآبائهم، فمعنى قولهم‏:‏ ‏{‏والله أمرنا بها‏}‏ ليسَ ادّعاءَ بلوغ أمر من الله إليهم ولكنّهم أرادوا أنّ الله أمر آباءهم الذين رسموا تلك الرّسوم وسنّوها فكان أمرُ الله آباءَهم أمراً لهم، لأنّه أراد بقاء ذلك في ذريّاتهم، فهذا معنى استدلالهم، وقد أجمله إيجاز القرآن اعتماداً على فطنة المخاطبين‏.‏

وأسند الفعل والقول إلى ضمير الذين لا يؤمنون في قوله‏:‏ ‏{‏وإذا فعلوا فاحشة قالوا‏}‏‏:‏ على معنى الإسناد إلى ضمير المجموع، وقد يكون القائل غير الفاعل، والفاعل غير قائل، اعتداداً بأنّهم لما صَدّق بعضهم بعضاً في ذلك فكأنّهم فعلوه كلّهم واعتذروا عنه كلّهم‏.‏

وأفاد الشّرط رَبْطاً بين فعلهم الفاحشة وقولهم‏:‏ ‏{‏وجدنا عليها آباءنا‏}‏ باعتبا إيجاز في الكلام يدلّ عليه السّياق، إذ المفهوم أنّهم إذا فعلوا فاحشة فأنكِرَتْ عليهم أو نُهوا عنها قالوا وجدنا عليها آباءنا، وليس المراد بالإنكار والنّهي خصوص نهي الإسلام إياهم عن ضلالهم، ولكن المراد نهيُ أيّ ناه وإنكارُ أيّ منكر، فقد كان ينكر عليهم الفواحش من لا يوافقونهم عليها من القبائل، فإنّ دين المشركين كان أشتاتاً مختلفاً، وكان ينكر عليهم ذلك من خلعوا الشّرك من العرب مثل زيد بن عمرو بن نفيل، وأمّيةَ ابن أبي الصَّلْت، وقد قال لهم زيد بن عمرو‏:‏ «إنّ الله خلق الشّاة وأنزل لها الماء من السّماء وأنبت لها العشب ثمّ أنتم تذبحونها لغيره» وكان ينكر عليهم من يتحَرج من أفعالهم ثمّ لا يسعه إلاّ اتّباعهم فيها إكراهاً‏.‏

وكان ينكر عليهم من لا توافق أعمالُهم هواه‏:‏ كما وقع لامرئ القيس، حيث عزم على قتال بني أسد بعد قتلهم أباه حُجْراً، فقصد ذا الخَلَصة صنمَ خَثْعَمَ واستقسم عنده بالأزلام فخرج له النّاهي فكسر الأزلام وقال‏:‏

لو كنتَ يا ذا الخَلَص الموتورا *** مِثْلي وكان شيخُك المقبورا

لَمْ تنهَ عن قتل العُداة زُوراً ***

ثمّ جاء الإسلام فنعى عليهم أعمالهم الفاسدة، وأسمعهم قوارع القرآن فحينئذ تصدّوا للاعتذار‏.‏ وقد علم من السّياق تشنيع معذرتهم وفساد حجّتهم‏.‏

ودلّت الآية على إنكار ما كان مماثلاً لهذا الاستدلال وهو كلّ دليل توكأ على اتّباع الآباء في الأمور الظّاهر فسادها وفحشها، وكلّ دليل استند إلى ما لا قبل للمستدل بعلمه، فإنّ قولهم‏:‏ ‏{‏والله أمرنا بها‏}‏ دعوى باطلة إذ لم يبلغهم أمر الله بذلك بواسطة مبلّغ، فإنّهم كانوا ينكرون النّبوءة، فمن أين لهم تلقي مراد الله تعالى‏.‏

وقد ردّ الله ذلك عليهم بقوله لرسوله‏:‏ ‏{‏قل إن الله لا يأمرنا بالفحشاء‏}‏ فَأعْرَضَ عن ردّ قولهم‏:‏ ‏{‏وجدنا عليها آباءنا‏}‏ لأنّه إن كان يراد ردّه من جهة التّكذيب فهم غير كاذبين في قولهم، لأنّ آباءهم كانوا يأتون تلك الفواحش، وإن كان يراد ردّه من جهة عدم صلاحيته للحجّة فإنّ ذلك ظاهر، لأنّ الإنكار والنّهي ظاهر انتقالهما إلى آبائهم، إذ ما جاز على المثل يجوز على المماثل، فصار ردّ هذه المقدّمة من دليلهم بديهياً وكان أهمّ منه ردّ المقدّمة الكبرى، وهي مناط الاستدلال، أعني قولهم‏:‏ ‏{‏والله أمرنا بها‏}‏‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏قل إن الله لا يأمر بالفحشاء‏}‏ نقض لدعواهم أنّ الله أمَرهم بها أي بتلك الفواحش، وهو ردّ عليهم، وتعليم لهم، وإفاقة لهم من غرورهم، لأنّ الله متّصف بالكمَال فلا يأمر بما هو نقص لم يرضه العقلاء وأنكروه، فكون الفعل فاحشة كاف في الدّلالة على أنّ الله لا يأمر به لأنّ الله له الكمال الأعلى، وما كان اعتذارهم بأنّ الله أمر بذلك إلاّ عن جهل، ولذلك وبَّخهم الله بالاستفهام التّوبيخي بقوله‏:‏ ‏{‏أتقولون على الله ما لا تعلمون‏}‏ أي ما لا تعلمون أنّ اللهأمر به، فحُذف المفعول لدلالة ما تقدّم عليه، لأنّهم لم يعلموا أنّ الله أمرهم بذلك إذ لا مستند لهم فيه، وإنّما قالوه عن مجرّد التّوهّم، ولأنّهم لم يعلموا أنّ الله لا يليق بجلاله وكماله أن يأمر بمثل تلك الرّذائل‏.‏

وضمن‏:‏ ‏{‏تقولون‏}‏ معنى تكذيون أو معنى تتقَوّلون، فلذلك عُدّي بعَلى، وكان حقّه أن يعدى بعَنْ لو كان قولاً صحيح النّسبة، وإذ كان التّوبيخ وارداً على أن يقولوا على الله ما لا يعلمون كان القول على الله بما يُتحقّق عدمُ وروده من الله أحرى‏.‏

وبهذا الرد تمحض عملهم تلك الفواحش للضّلال والغرور واتّباع وحي الشّياطين إلى أوليائهم أيمّة الكفر، وقادة الشّرك‏:‏ مثل عَمْرو بن لُحَي، الذي وَضَعَ عبادة الأصنام، ومثل أبي كَبشة، الذي سنّ عبادة الشّعري من الكواكب، ومثل ظالم بن أسْعد، الذي وضع عبادة العُزى، ومثل القلَمَّسسِ، الذي سنّ النَّسيء إلى ما اتّصل بذلك من موضوعات سدنة الأصنام وبيوتتِ الشّرك‏.‏

واعلم أن ليس في الآية مستند لإبطال التّقليد في الأمور الفرعيّة أو الأصول الدّينيّة لأنّ التّقليد الذي نعاه الله على المشركين هو تقليدهم مَن ليسوا أهلاً لأنّ يقلَّدوا، لأنّهم لا يرتفعون عن رتبة مقلِّديهم، إلاّ بأنّهم أقدم جيلاً، وأنّهم آباؤهم، فإنّ المشركين لم يعتذروا بأنّهم وجدوا عليه الصّالحين وهداة الأمّة، ولا بأنّه ممّا كان عليه إبراهيم وأبناؤه، ولأنّ التّقليد الذي نعاه الله عليهم تقليد في أعمال بديهيّة الفساد، والتّقليد في الفساد يستوي، هو وتسنينه، في الذّم، على أنّ تسنين الفساد أشدّ مذمّة من التّقليد فيه كما أنبأ عنه الحديث الصّحيح‏:‏ «مَا من نفس تُقتل ظُلماً إلاّ كان على ابنِ آدم الأولِ كِفْل من دمها ذلك لأنّه أوّلُ من سَنّ القتل» وحديث‏:‏ «مَن سَنّ سُنّة سَيِّئة فعليه وزرها ووزر من عَمِل بها إلى يوم القيامة»‏.‏ فما فرضه الذين ينزعون إلى علم الكلام من المفسّرين في هذه الآية من القول في ذمّ التّقليد ناظر إلى اعتبار الإشراك داخلاً في فعل الفواحش‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 30‏]‏

‏{‏قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ‏(‏29‏)‏ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

بعد أن أبطل زعمهم أنّ الله أمرهم بما يفعلونه من الفواحش إبطالاً عاماً بقوله‏:‏ ‏{‏قل إن الله لا يأمر بالفحشاء‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 28‏]‏ استأنف استئنافاً استطرادياً بما فيه جماع مقوّمات الدّين الحق الذي يجمعه معنى القِسْط أي العدل تعليماً لهم بنقيض جهلهم، وتنويهاً بجلال الله تعالى، بأنّ يعلموا ما شأنه أن يأمر الله به‏.‏ ولأهميّة هذا الغرض، ولمضادته لمدّعاهم المنفي في جملة‏:‏ ‏{‏قل إن الله لا يأمر بالفحشاء‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 28‏]‏ فُصلت هذه الجملة عن التي قبلها، ولم يُعطف القولُ على القول ولا المقول على المقول‏:‏ لأنّ في إعادة فعل القَول وفي ترك عطفه على نظيره لَفْتاً للأذهان إليه‏.‏

والقسط‏:‏ العَدل وهو هنا العدل بمعناه الأعمّ، أي الفعل الذي هو وسط بين الإفراط والتّفريط في الأشياء، وهو الفضيلة من كلّ فعل، فالله أمر بالفضائل وبما تشهد العقول السّليمة أنّه صلاح محض وأنّه حسن مستقيم، نظير قوله‏:‏ ‏{‏وكان بين ذلك قَواماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 67‏]‏ فالتّوحيد عدل بين الإشراك والتّعطيل، والقصاص من القاتل عدل بين إطلال الدّماء وبين قتل الجماعة من قبيلة القاتل لأجل جناية واحد من القبيلة لم يُقدَر عليه‏.‏ وأمَر الله بالإحسان، وهو عدل بين الشحّ والإسراف، فالقسط صفة للفعل في ذاته بأن يكون ملائماً للصّلاح عاجلاً وآجلاً، أي سالماً من عواقب الفساد، وقد نقل عن ابن عبّاس أنّ القسط قول لا إله إلاّ هو، وإنّما يعني بذلك أنّ التّوحيد من أعظم القسط، وهذا إبطال للفواحش التي زعموا أنّ الله أمرهم بها لأنّ شيئاً من تلك الفواحش ليس بقسط، وكذلك اللّباس فإنّ التّعري تفريط، والمبالغة في وضع اللباس إفراطٌ، والعدل هو اللّباس الذي يستر العورة ويدفع أذى القرّ أو الحَرّ، وكذلك الطّعام فتحريم بعضه غلو، والاسترسال فيه نهامة، والوسط هو الاعتدال، فقوله‏:‏ ‏{‏أمر ربي بالقسط‏}‏ كلام جامع لإبطال كلّ ما يزعمون أنّ الله أمرهم به ممّا ليس من قبيل القسط‏.‏

ثمّ أعقبه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم عن الله‏:‏ ‏{‏أقيموا وجوهكم عند كل مسجد‏}‏ فجملة‏:‏ ‏{‏وأقيموا‏}‏ عطف على جملة‏:‏ ‏{‏أمر ربي بالقسط‏}‏ أي قُلْ لأولئك المخاطبين أقيموا وجوهكم‏.‏ والقصد الأوّل منه إبطال بعض ممّا زعموا أنّ الله أمرهم به بطريق أمرهم بضدّ ما زعموه ليحصل أمرهم بما يرضي الله بالتّصريح‏.‏ وإبطالُ شيء زعموا أنّ الله أمرهم به بالالتزام، لأنّ الأمر بالشّيء نهي عن ضدّه، وإن شئت قلت لأنّ من يريد النّهي عن شيءٍ وفعلَ ضدّه يأمر بضدّه فيحصل الغرضان من أمره‏.‏

وإقامة الوجوه تمثيل لكمال الإقبال على عبادة الله تعالى، في مواضع عبادته، بحال المتهيّئ لمشاهدة أمر مهم حين يُوجه وجهه إلى صَوْبه، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فذلك التّوجّه المحض يطلق عليه إقامة لأنّه جعل الوَجه قائماً، أي غير متغاضضٍ ولا متوان في التّوجّه، وهو في إطلاق القيام على القوّة في الفعل كما يقال‏:‏ قامت السّوق، وقامت الصّلاة، وقد تقدّم في أوّل سورة البقرة ‏(‏3‏)‏ عند قوله‏:‏

‏{‏ويقيمون الصلاة ومنه قوله تعالى‏:‏ فأقم وجهك للدين حنيفاً‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 30‏]‏ فالمعنى أنّ الله أمر بإقامة الوجوه عند المساجد، لأنّ ذلك هو تعظيم المعبود ومكان العبادة، ولم يأمر بتعظيمه ولا تعظيم مساجده بما سوى ذلك مثل التّعرّي، وإشراك الله بغيره في العبادة مناف لها أيضاً، وهذا كما ورد في الحديث‏:‏ «المصلّي يناجي ربّه فلا يَبْصُقَنّ قِبل وجهه» فالنّهي عن التّعرّي مقصود هنا لشمول اللّفظ إياه، ولدلالة السّياق عليه بتكرير الامتنان والأمرِ باللّباس‏:‏ ابتداء من قوله‏:‏ ‏{‏ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 20‏]‏ إلى هنا‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏عند كل مسجد‏}‏ عند كلّ مكان متخَذ لعبادة الله تعالى، واسم المسجد منقول في الإسلام للمكان المعيَّن المحدود المتّخذ للصّلاة وتقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام‏}‏ في سورة العقود ‏(‏2‏)‏، فالشّعائر التي يوقعون فيها أعمالاً من الحجّ كلّها مساجد، ولم يكن لهم مساجد غير شعائر الحجّ، فذِكر المساجد في الآية يعيّن أنّ المراد إقامة الوجوه عند التّوجّه إلى الله في الحجّ بأن لا يشركوا مع الله في ذلك غيرَه من أصنامهم بالنّية، كما كانوا وضعوا ‏(‏هُبَلَ‏)‏ على سطح الكعبة ليكون الطّواف بالكعبة لله ولهُبل، ووضعوا ‏(‏إسافاً ونائلة‏)‏ على الصّفا والمروة ليكون السّعي لله ولهما‏.‏ وكان فريق منهم يهلّون إلى ‏(‏منَاة‏)‏ عند ‏(‏المشلل‏)‏، فالأمر بإقامة الوجوه عند المساجد كلّها أمر بالتزام التّوحيد وكمال الحال في شعائر الحجّ كلّها، فهذه مناسبة عطف قوله‏:‏ وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد‏}‏ عقب إنكار أن يأمر الله بالفحشاء من أحوالهم، وإثبات أنّه أمر بالقسط ممّا يضادها‏.‏ وهذا الأمر وإن كان المقصود به المشركين لأنّهم المتّصفون بضدّه، فللمؤمنين منه حظّ الدّوام عليه، كما كان للمشركين حظّ الإعراض عنه والتّفريط فيه‏.‏

والدّعاء في قوله‏:‏ ‏{‏وادعوه مخلصين له الدين‏}‏ بمعنى العبادة أي اعبدوه كقوله‏:‏ ‏{‏إن الذين تدعون من دون الله‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 194‏]‏‏.‏ والإخلاص تمحيض الشّيء من مخالطة غيره‏.‏ والدّين بمعنى الطّاعة من قولهم دنت لفلان أي أطعته‏.‏

ومنه سمّي الله تعالى‏:‏ الديَّان، أي القهّار المذلّل المطوع لسائر الموجودات ونظير هذه الآية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أُمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 5‏]‏، والمقصد منها إبطال الشّرك في عبادة الله تعالى، وفي إبطاله تحقيق لمعنى القِسط الذي في قوله‏:‏ ‏{‏قل أمر ربي بالقسط‏}‏ كما قدمناه هنالك، و‏{‏مخلصين‏}‏ حال من الضّمير في ادعوه‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏كما بدأكم تعودون‏}‏ في موضع الحال من الضّمير المستتر في قوله‏:‏ ‏{‏مخلصين‏}‏ وهي حال مقدرة أي‏:‏ مقدّرين عَودكم إليه وأنّ عودكم كبدئكم، وهذا إنذار بأنّهم مُؤاخدون على عدم الإخلاص في العبادة، فالمقصود منه هو قوله‏:‏ ‏{‏تعودون‏}‏ أي إليه، وأدمج فيه قوله‏:‏ ‏{‏كما بدأكم‏}‏ تذكيراً بإمكان البعث الذي أحالوه؛ فكان هذا إنذاراً لهم بأنّهم عائدون إليه فمُجَازَوْن عن إشراكهم في عبادته، وهو أيضاً احْتجاج عليهم على عدم جدوى عبادتهم غيرَ الله، وإثبات للبعث الذي أنكروه بدَفع موجب استبعادهم إياه، حين يقولون‏:‏

‏{‏أإذا مِتنَا وكنّا تراباً وعظاماً ءإنّا لمبعوثون‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 47‏]‏ ويقولون ‏{‏أينا لمردودون في الحافرة أإذا كنّا عظاماً نَخِرة‏}‏ ‏[‏النازعان‏:‏ 10، 11‏]‏ ونحو ذلك، بأنّ ذلك الخلق ليس بأعجبَ من خلقهم الأوّل كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 15‏]‏ وكما قال‏:‏ ‏{‏وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏ أي بنقيض تقدير استبعادهم الخلق الثّاني، وتذكير لهم بأنّ الله منفرد بخلقهم الثّاني، كما انفرد بخلقهم الأوّل، فهو منفرد بالجزاء فلا يغني عنهم آلهتهم شيئاً‏.‏

فالكاف في قوله‏:‏ ‏{‏كما بدأكم تعودون‏}‏ لتشبيه عود خلقهم ببدئه و‏(‏ما‏)‏ مصدريّة والتّقدير‏:‏ تعودون عوداً جديداً كبدئه إيَّاكم، فقدم المتعلِّق، الدّال على التّشبيه، على فعلِه، وهو تعودون، للاهتمام به، وقد فسّرت الآية في بعض الأقوال بمعان هي بعِيدة عن سياقها ونظمها‏.‏

و ‏{‏فريقاً‏}‏ الأوّلُ والثّاني منصوبان على الحال‏:‏ إمَّا من الضّمير المرفوع في ‏{‏تعودون‏}‏، أي ترجعون إلى الله فريقين، فاكتُفي عن إجمال الفريقين ثم تفصيلِهما بالتّفصيل الدّال على الإجمال تعجيلاً بذكر التّفصيل لأنّ المقام مقام ترغيب وترهيب، ومعنى ‏{‏فريقاً هدى‏}‏‏:‏ أنّ فريقاً هداهم الله في الدّنيا وفريقاً حقّ عليهم الضّلالة، أي في الدّنيا، كما دلّ عليه التّعليل بقوله‏:‏ ‏{‏إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله‏}‏، وإمّا من الضّمير المستتر في قوله‏:‏ ‏{‏مخلصين‏}‏ أي ادْعُوه مخلصين حال كونكم فريقين‏:‏ فريقاً هداه الله للإخلاص ونبذِ الشّرك، وفريقاً دام على الضّلال ولازم الشّرك‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏هدى‏}‏ في موضع الصّفة لفريقاً الأوّل، وقد حذف الرّابط المنصوب‏:‏ أي هداكم الله، وجملة‏:‏ ‏{‏حق عليهم الضلالة‏}‏ صفة ‏{‏فريقاً‏}‏ الثّاني‏.‏

وهذا كلّه إنذار من الوقوع في الضّلالة، وتحذير من اتّباع الشّيطان، وتحريض على توخي الاهتداء الذي هو من الله تعالى، كما دلّ عليه إسناده إلى ضمير الجلالة في قوله‏:‏ ‏{‏هدى‏}‏ فيعلم السّامعون أنّهم إذا رجعوا إليه فريقين كان الفريق المفلح هو الفريق الذين هداهم الله تعالى كما قال‏:‏ ‏{‏أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 22‏]‏ وأنّ الفريق الخاسر هم الذين حَقّت عليه الضّلالة واتّخذوا الشّياطين أولياء من دون الله كما قال‏:‏ ‏{‏أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 19‏]‏‏.‏ وتقديم ‏{‏فريقاً الأوّل والثّاني على عامليهما للاهتمام بالتّفصيل‏.‏

ومعنى‏:‏ حق عليهم الضلالة‏}‏ ثبتت لهم الضّلالة ولزموها‏.‏ ولم يقلعوا عنها، وذلك أنّ المخاطبين كانوا مشركين كلّهم، فلمّا أمروا بأن يعبدوا الله مخلصين افترقوا فريقين‏:‏ فريقاً هداه الله إلى التّوحيد، وفريقاً لازم الشّرك والضّلالة، فلم يطرأ عليهم حال جديد‏.‏

وبذلك يظهر حسن موقع لفظ‏:‏ ‏{‏حق‏}‏ هنا دون أن يقال أضلّه الله، لأنّ ضلالهم قديم مستمر اكتسبوه لأنفسهم، كما قال تعالى في نظيره‏:‏ ‏{‏فمنهم من هدى اللَّه ومنهم من حقت عيله الضلالة‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 36‏]‏ ثمّ قال ‏{‏إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 37‏]‏، فليس تغيير الأسلوب بين‏:‏ ‏{‏فريقاً هدى‏}‏ وبين ‏{‏وفريقاً حق عليهم الضلالة‏}‏ تحاشيا عن إسناد الإضلال إلى الله، كما توهمه صاحب «الكشاف»، لأنّه قد أسند الإضلال إلى الله في نظير هذه الآية كما علمت وفي آيات كثيرة، ولكنّ اختلاف الأسلوب لاختلاف الأحوال‏.‏

وجُرد فعل حقّ عن علامة التّأنيث لأنّ فاعله غير حقيقي التّأنيث، وقد أظهرت علامة التّأنيث في نظيره في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومنهم من حقت عليه الضلالة‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 36‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله‏}‏ استئناف مراد به التّعليل لجملة ‏{‏حقت عليه الضلالة‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 36‏]‏، وهذا شأن ‏(‏إنّ‏)‏ إذا وقعت في صدر جملة عقب جملة أخرى أن تكون للرّبط والتّعليل وتغني غَنَاء الفاء، كما تقدّم غيرَ مرّة‏.‏

والمعنى أنّ هذا الفريق، الذي حَقت عليهم الضّلالة، لمّا سمعوا الدّعوة إلى التّوحيد والإسلام، لم يطلبوا النّجاة ولم يتفكّروا في ضلال الشّرك البيِّن، ولكنّهم استوحوا شياطينهم، وطابت نفوسهم بوسوستهم، وائتمروا بأمرهم، واتّخذوهم أولياء، فلا جرم أن يدوموا على ضلالهم لأجل اتّخاذهم الشّياطين أولياء من دون الله‏.‏

وعطف جملة‏:‏ ‏{‏ويحسبون‏}‏ على جملة‏:‏ ‏{‏اتخذوا‏}‏ فكان ضلالهم ضلالاً مركباً، إذ هم قد ضلّوا في الائتمار بأمر أيمّة الكفر وألياء الشّياطين، ولمّا سمعوا داعي الهُدى لم يتفكّروا، وأهملوا النّظر، لأنّهم يحسبون أنّهم مهتدون لا يتطرق إليهم شكّ في أنّهم مهتدون، فلذلك لم تخطر ببَالهم الحاجة إلى النّظر في صدق الرّسول صلى الله عليه وسلم والحسبان الظنّ، وهو هنا ظن مجرّد عن دليل، وذلك أغلب ما يراد بالظنّ وما يرادفه في القرآن‏.‏

وعطف هذه الجملة على التي قبلها، واعتبارهما سواء في الإخبار عن الفريق الذين حقّت عليهم الضّلالة، لقصد الدّلالة على أنّ ضلالهم حاصل في كلّ واحد من الخبرين، فولاية الشّياطين ضلالة، وحسبانهم ضلالهم هدى ضلالة أيضاً، سواء كان ذلك كلّه عن خطأ أو عن عناد، إذ لا عذر للضّال في ضلاله بالخطأ، لأنّ الله نصب الأدلّة على الحقّ وعلى التّمييز بين الحقّ والباطل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

إعادة النّداء في صدر هذه الجملة للاهتمام، وتعريف المنادَى بطريق الإضافة بوصف كونهم بني آدم متابعة للخطاب المتقدّم في قوله‏:‏ ‏{‏يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 26‏]‏‏.‏

وهذه الجملة تتنزّل، من التي بَعدها، وهي قوله‏:‏ ‏{‏قل من حرم زينة الله‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 32‏]‏ منزلة النّتيجة من الجدل، فقدمت على الجدل فصارت غرضاً بمنزلة دعوى وجعل الجدل حجّة على الدّعوى، وذلك طريق من طرق الإنشاء في ترتيب المعاني ونتائجها‏.‏

فالمقصد من قوله‏:‏ ‏{‏خذوا زينتكم‏}‏ إبطال ما زعمه المشركون من لزوم التّعرّي في الحجّ في أحوال خاصّة، وعند مساجد معيّنة، فقد أخرج مسلم عن ابن عبّاس، قال‏:‏ كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة وتقول من يُعيرني تِطْوافاً تجعله على فرجها وتقول‏:‏

اليومَ يبدو بعضُه أو كلُّه *** وما بَدا منه فلا أُحِلُّه

وأخرج مسلم عن عروة بن الزبير، قال‏:‏ كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلاّ الحُمْس، والحُمْس قريشٌ وما ولدتْ فكان غيرهم يطوفون عراة إلاّ أن يعطيهم الحُمْس ثياباً فيعطِي الرّجالُ الرّجالَ والنّساءُ النّساءَ، وعنه‏:‏ أنّهم كانوا إذا وصلوا إلى منى طرحوا ثيابهم وأتوا المسجد عُراة‏.‏ وروي أنّ الحُمْس كانوا يقولون نحن أهل الحرم فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلاّ في ثيابنا ولا يأكل إذا دَخل أرضنا إلاّ من طعامنا‏.‏ فمن لم يكن له من العرب صديق بمكّة يعيره ثوباً ولا يجد من يستأجر به كان بين أحد أمرين إمّا أن يطوف بالبيت عُرياناً، وإمّا أن يطوف في ثيابه فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه عنه فلم يمسّه أحد وكان ذلك الثّوب يسمّى‏:‏ اللَّقَى بفتح اللام قال شاعرهم‏:‏

كفى حزناً كَري عليه كأنّه *** لقى بين أيدي الطائفين حَرامُ

وفي «الكشاف»، عن طاووس‏:‏ كان أحدهم يطوف عرياناً ويدع ثيابه وراء المسجد وإن طاف وهي عليه ضُرِب وانتُزِعَت منه لأنّهم قالوا‏:‏ لا نعبد الله في ثياببٍ أذنَبْنا فيها، وقد أبطله النبي صلى الله عليه وسلم إذ أمر أبا بكر رضي الله عنه، عام حجّته سنة تسع، أن ينادي في الموسم‏:‏ ‏"‏ أنْ لا يحج بعد العام مُشرك ولا يطوفَ بالبيت عُريان ‏"‏‏.‏

وعن السدي وابن عبّاس كان أهل الجاهليّة التزموا تحريمَ اللّم والودك في أيام الموسم، ولا يأكلون من الطّعام إلاّ قُوتاً، ولا يأكلون دَسماً، ونسب في «الكشاف» ذلك إلى بني عامر، وكان الحُمْس يقولون‏:‏ لا ينبغي لأحد إذا دخل أرضَنا أن يأكل إلاّ من طعامنا، وفي «تفسير الطبري» عن جابر بن زيد كانوا إذا حجوا حرّموا الشاة ولبنها وسمْنها‏.‏ وفيه عن قتادة‏:‏ أنّ الآية أرادت ما حرّموه على أنفسهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي‏.‏

فالأمر في قوله‏:‏ ‏{‏خذوا زينتكم‏}‏ للوجوب، وفي قوله‏:‏ ‏{‏وكلوا واشربوا‏}‏ للإباحه لبني آدم الماضين والحاضرين‏.‏

والمقصود من توجيه الأمر أو من حكايته إبطالُ التّحريم الذي جعله أهل الجاهليّة بأنهم نقضوا به ما تقرّر في أصل الفطرة ممّا أمر الله به بني آدم كلّهم، وامتن به عليهم، إذ خلق لهم ما في الأرض جميعاً‏.‏ وهو شبيه بالأمر الوارد بعد الحَظر‏.‏ فإنّ أصله إبطال التّحريم وهو الإباحة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا حللتم فاصطادوا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏غير محلي الصيد وأنتم حرم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 1‏]‏ وقد يعرض لما أبطل به التّحريم أن يكون واجباً‏.‏ فقد ظهر من السّياق والسّباق في هذه الآيات أن كشف العورة من الفواحش، فلا جرم يكون اللّباس في الحجّ منه واجبٌ، وهو ما يستْر العورة، وما زاد على ذلك مباح مأذون فيه إبطالاً لتحريمه، وأمّا الأمر بالأكل والشّرب فهو للإباحة إبطالاً للتّحريم، وليس يجب على أحد أكل اللّحم والدّسم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏عند كل مسجد‏}‏ تعميم أي لا تخصّوا بعض المساجد بالتّعري مثل المسجد الحرام ومسجد مِنَى، وقد تقدّم نظيره في قوله‏:‏ ‏{‏وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 29‏]‏‏.‏ وقد ظهرت مناسبة عطف الأمر بالأكل والشّرب على الأمر بأخذ الزّينة ممّا مضى آنفاً‏.‏

والإسراف تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوها إسرافاً‏}‏ في سورة النّساء ‏(‏6‏)‏، وهو تجاوز الحدّ المتعارف في الشّيء أي‏:‏ ولا تسرفوا في الأكل بكثرة أكل اللّحوم والدّسم لأنّ ذلك يعود بأضرار على البدن وتنشأ منه أمراض معضلة‏.‏

وقد قيل إنّ هذه الآية جمعت أصول حفظ الصّحة من جانب الغذاء فالنّهي عن السرف نهيُ إرشاد لا نهي تحريم بقرينة الإباحة اللاّحقة في قوله‏:‏ ‏{‏قل من حرم زينة الله‏}‏ إلى قوله ‏{‏والطيبات من الرزق‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 32‏]‏، ولأنّ مقدار الإسراف لا ينضبط فلا يتعلّق به التّكليف، ولكن يوكل إلى تدبير النّاس مصالحهم، وهذا راجع إلى معنى القسط الواقع في قوله سابقاً‏:‏ ‏{‏قل أمر ربي بالقسط‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 29‏]‏ فإن ترك السّرف من معنى العدل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إنه لا يحب المسرفين‏}‏ تذييل، وتقدّم القول في نظيره في سورة الأنعام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

استئناف معتَرَض بين الخطابات المحكيّة والموجّهة، وهو موضع إبطال مزاعم أهل الجاهليّة فيما حرّموه من اللّباس والطّعام وهي زيادة تأكيد لإباحة التستر في المساجد، فابتدئ الكلام السابق بأنّ اللباس نعمة من لله‏.‏ وثني بالأمر بإيجاب التستر عند كل مسجد، وثلث بانكاران يوجد تحريم اللباس وافتتاح الجملة ب ‏{‏قل‏}‏ دلالة على أنّه كلام مسوق للردّ والإنكار والمحاورة‏.‏

والاستفهام إنكاري قصد به التّهكّم إذ جعلهم بمنزلة أهل علم يطلب منهم البيان والإفادة نظير قوله‏:‏ ‏{‏قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏ وقوله ‏{‏نبئوني بعلم إن كنتم صادقين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 143‏]‏ وقرينة التّهكّم‏:‏ إضافة الزّينة إلى اسم الله، وتعريفها بأنّها أخرجها الله لعباده، ووصفُ الرّزق بالطّيبات، وذلك يقتضي عدم التّحريم، فالاستفهام يؤول أيضاً إلى إنكار تحريمها‏.‏

ولوضوح انتفاء تحريمها، وأنّه لا يقوله عاقل، وأنّ السؤال سؤال عالم لا سؤال طالب علم، أُمر السّائل بأن يجيب بنفسه سؤَالَ نفسِه، فعُقب ما هو في صورة السؤال بقوله‏:‏ ‏{‏قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا‏}‏ على طريقة قوله‏:‏ ‏{‏قل لمن ما في السموات والأرض قل لله‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏12‏)‏، وقوله ‏{‏عم يتساءلون عن النبإ العظيم‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 1، 2‏]‏ فآل السؤال وجوابه إلى خبرين‏.‏

وضمير‏:‏ ‏{‏هي‏}‏ عائد إلى الزينة والطّيبات بقطع النّظر عن وصْف تحريم من حرّمها، أي‏:‏ الزّينةُ والطّيبات من حيث هي هي حلال للذين آمنوا فمن حرّمها على أنفسهم فقد حَرَمُوا أنفسهم‏.‏

واللاّم في‏:‏ ‏{‏للذين آمنوا‏}‏ لام الاختصاص وهو يدلّ على الإباحة، فالمعنى‏:‏ ما هي بحرام ولكنّها مباحة للذين آمنوا، وإنّما حَرَم المشركون أنفسهم من أصناف منها في الحياة الدّنيا كلّها مثل البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي وما في بطونها، وحَرَم بعض المشركين أنفسهم من أشياء في أوقات من الحياة الدّنيا ممّا حرّموه على أنفسهم من اللّباس في الطّواف وفي منى، ومن أكل اللّحوم والودَك والسّمن واللّبن، فكان الفوز للمؤمنين إذ اتّبعوا أمر الله بتحليل ذلك كلّه في جميع أوقات الحياة الدّنيا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏خالصة يوم القيامة‏}‏ قرأه نافع، وحده‏:‏ برفع خالصة على أنّه خبر ثان عن قوله‏:‏ ‏{‏هي‏}‏ أي‏:‏ هي لهم في الدّنيا وهي لهم خالصة يوم القيامة، وقرأه باقي العشرة‏:‏ بالنّصب على الحال من المبتدأ أي هي لهم الآن حال كونها خالصة في الآخرة ومعنى القراءتين واحد، وهو أنّ الزّينة والطّيّبات تكون خالصة للمؤمنين يوم القيامة‏.‏

والأظهر أنّ الضّمير المستتر في ‏{‏خالصة‏}‏ عائد إلى الزّينة والطّيبات الحاصلة في الحياة الدّنيا بعينها، أي هي خالصة لهم في الآخرة، ولا شكّ أنّ تلك الزّينة والطّيّبات قد انقرضت في الدّنيا، فمعنى خلاصها صفاؤها، وكونه في يوم القيامة‏:‏ هو أنّ يوم القيامة مظهر صفائِها أي خلوصها من التّبعات المنجرّة منها، وهي تبعات تحريمها، وتبعات تناول بعضها مع الكفر بالمنعِم بها، فالمؤمنون لمّا تناولوها في الدّنيا تناولوها بإذن ربّهم، بخلاف المشركين فإنّهم يسألون عنها فيعاقبون على ما تناولوه منها في الدّنيا، لأنّهم كفروا نعمة المنعِم بها، فأشركوا به غيره كما قال تعالى فيهم‏:‏

‏{‏وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 82‏]‏ وإلى هذا المعنى يشير تفسير سعيد بن جبير، والأمر فيه على قراءة رفع‏:‏ ‏{‏خالصة‏}‏ أنّه إخبار عن هذه الزّينة والطّيبات بأنّها لا تعقب المتمتّعين بها تبعات ولا أضراراً، وعلى قراءة النّصب فهو نصب على الحال المقدرة‏.‏

ويحتمل أن يكون الضّمير في ‏{‏خالصة‏}‏ عائداً إلى الزّينة والطّيبات، باعتبار أنواعها لا باعتبار أعيانها، فيكون المعنى‏:‏ ولهم أمثالها يوم القيامة خالصة‏.‏

ومعنى الخلاص التّمحض وهو هنا التّمحض عن مشاركة غيرهم من أهل يوم القيامة، والمقصود أنّ المشركين وغيرهم من الكافرين لا زينة لهم ولا طيّبات من الرّزق يوم القيامة، أي أنّها في الدّنيا كانت لهم مع مشاركة المشركين إياهم فيها، وهذا المعنى مروي عن ابن عبّاس وأصحابه‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏كذلك نفصّل الآيات‏}‏ كهذا التّفصيل المتبَدِيء من قوله‏:‏ ‏{‏يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 26‏]‏ الآيات أو من قوله‏:‏ ‏{‏اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وتقدّم نظير هذا التّركيب في سورة الأنعام‏.‏

والمراد بالآيات الدّلائل الدّالة على عظيم قدرة الله تعالى، وانفراده بالإلهيّة، والدّالة على صدق رسوله محمّد صلى الله عليه وسلم إذ بيَّن فساد دين أهل الجاهليّة، وعلَّم أهل الإسلام علماً كاملاً لا يختلط معه الصّالح والفاسد من الأعمال، إذ قال‏:‏ خُذوا زينتكم، وقال‏:‏ ‏{‏وكلوا واشربوا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 31‏]‏، ثمّ قال‏:‏ ‏{‏ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 31‏]‏، وإذ عاقب المشركين على شركهم وعنادهم وتكذيبهم بعقاب في الدّنيا، فخذلهم حتّى وضعوا لأنفسهم شرعاً حَرَمَهم من طيّبات كثيرة وشوّه بهم بين الملإ في الحجّ بالعراء فكانوا مثَل سوءٍ ثمّ عاقبهم على ذلك في الآخرة، وإذ وفق المؤمنين لَمَّا استعدّوا لقبول دعوة رسوله فاتّبعوه، فمتّعهم بجميع الطّيبات في الدّنيا غير محرومين من شيء إلاّ أشياء فيها ضُر عَلِمه الله فحرّمها عليهم، وسلَّمهم من العقاب عليها في الآخرة‏.‏

واللاّم في قوله‏:‏ ‏{‏لقوم يعلمون‏}‏ لام العلّة، وهو متعلّق بفعل ‏{‏نفصل‏}‏، أي تفصيل الآيات لا يفهمه إلاّ قوم يعلمون، فإنّ الله لمّا فصّل الآيات يَعلم أنّ تفصيلها لقوم يعلمون، ويجوز أن يكون الجارُّ والمجرور ظرفاً مستقراً في موضع الحال من الآيات، أي حال كونها دلائل لقوم يعلمون، فإنّ غير الذين لا يعلمون لا تكون آيات لهم إذ لا يفقهونها كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏99‏)‏، أي كذلك التّفصيل الذي فَصلتُه لكم هنا نفصّل الآيات ويتجدّد تفصلينا إياها حرصا على نفع قوم يعلمون‏.‏

والمراد بقوم يعلمون‏}‏ الثّناءُ على المسلمين الذين فهموا الآيات وشكروا عليها، والتّعريضُ بجهل وضلال عقول المشركين الذين استمرّوا على عنادهم وضلالهم، رغم ما فصّل لهم من الآيات‏.‏